نظريات تطوير المناهج التعليمية الحديثة (1) نظرية الثبات الكمي والزمني

نظريات تطوير المناهج التعليمية الحديثة

(1) نظرية الثبات الكمي والزمني

لو تتبعنا مسيرة تطور رياضة كرة القدم عبر عقود من الزمن لوجدنا أنها تسير في تصاعد مستمر، سواء من حيث أسلوب تنظيم البطولات المختلفة والطرق المتبعة في التصفيات النهائية وأعداد الفرق المشاركة فيها، أو من حيث القوانين واللوائح التي تنظم أسلوب اللعب والتحكيم، أو حتى من حيث استخدام التكنولوجيا في تحليل أداء الحكّام واللاعبين واستكشاف قدراتهم ومهاراتهم الفردية والجماعية، والغريب في هذا الأمر أننا لم نلحظ، طوال تلك العقود، أي تطور أو تغيير يُذكر في مساحة ملعب كرة القدم، المساحة المحددة للعب بشكلها المستطيل وأبعاده الثابتة التي لا تتغير وربما لن تتغير أبداً مهما تطورت رياضة كرة القدم، كما أننا لم نلحظ أي تغير في مدة المباراة، أو حتى حصص التدريب، التي يتم تقسيمها على شوطين تفصلهما استراحة بسيطة!

فالطاقة الرياضية الجسمانية البشرية تظل محدودة على مر الأجيال المتعاقبة، مهما عظمت طاقات بعض اللاعبين ومهما تطور أداءهم في أرض الملعب، بحيث يستحيل زيادة مساحة الملعب أو مدة اللعب، سواء في حصص التدريب أو في المباريات الرسمية، دون أن يتأثر هذا الأداء سلباً، بل والأكثر من ذلك أنه لربما يأتي يوماً نفاجأ فيه بقانون يسمح بتقليل تلك المساحة أو حتى تقليص مدة المباريات لتتوافق مع متطلبات العصر الذي سيأتي في المستقبل البعيد الذي سيكون، باعتقادي، متسماً بالاسترخاء والكسل الرياضي الجسماني أكثر من أي شيء آخر، الكسل الناتج عن قلة الحركة بشكل عام والاعتماد المتزايد على الوسائل التكنولوجية حتى في لعبة كرة القدم!

ومثل الطاقة الرياضية العضلية، فإن الطاقة الرياضية الذهنية لدى الإنسان محدودة أيضاً، ومهما تطورت أساليب الحياة في شتى المجالات ومهما تطورت الأدوات المستخدمة فيها، فإن عقل الإنسان ثابت لا يتغير وقدرته على فهم واستيعاب المعرفة وممارسة الرياضات الذهنية بكافة أشكالها ستظل محدودة بشكل ما، سواء من حيث الكم أو من حيث المدة الزمنية التي يمارس فيها تلك الرياضات. وإذا اعتبرنا أن عملية التعلم هي شكل من أشكال الرياضة الذهنية التي يتلقى فيها الإنسان كميات من المعرفة ويمارس التدريب الذهني، اللغوي والرياضي والمعرفي بشكل عام، فيكون من الواجب أن لا تتخطى متطلبات تطوير التعليم أو المناهج التعليمية، مثلاً، بأي شكل من الأشكال، جانبي حدود العقل البشري والطاقة الرياضية الذهنية لدى الإنسان، والمتمثلة هنا بكل من كمية المعرفة والمدة الزمنية المرتبطة باكتسابها، تماماً مثل القيود التي فرضت ثبات مساحة الملعب ومدة المباراة في رياضة كرة القدم، بحيث ينبغي أن تبقيا ثابتتين مهما تطورت الأساليب والأدوات المستخدمة في التعليم ومهما تنوعت وتعددت سبل تلقي المعارف المتنوعة.

وبالرغم من كل الجهود التي تُبذل من أجل تطوير المناهج التعليمية في كافة المجتمعات، وحتى المتقدمة منها، إلاّ أنها أغفلت وأهملت الكثير من النقاط المهمة في هذا الأمر، وبخاصة ما يتعلق بمسألة الثبات الكمي والزمني الذي يلزم لاستمرار المسيرة التعليمية بشكلها الأمثل، سواء كان ذلك بالتقصير أو الإجحاف في حق الطالب والمدرس معاً، وإذا صح لنا التشبيه، يصبح مشهد تطوير التعليم في بعض المجتمعات أشبه بمحاولات تقليل مساحة ملعب كرة القدم وتقليص مدة المباراة في بعض المجتمعات أو زيادتهما في مجتمعات أخرى!، ولنا أن نتخيل ما ستؤول إليه العملية التعليمية وما سيحدث لكل من الطالب والمعلم، بل وللمجتمع برمته، في كلتا الحالتين، أو حتى ما يمكن أن تصبح عليه الأمور بعد مرور فترة من الزمن وتتعاقب الأجيال ويبدأ أولئك الطلاب بتولي مهام التدريس في مجتمعاتهم!!

إن عملية تطوير المناهج التعليمية، وإن كانت تستلزم تطويراً في الأساليب والأدوات في هذا العصر، إلاّ أنها ينبغي أن تتمتع بسمة الثبات الكمي والزمني، وفقاً لمقاييس محددة لكل مستوى من مستويات التعليم، بحيث يكتسب الطالب المعرفة الأصيلة والقدرات الذهنية اللازمة والضرورية في كل مرحلة أو تخصص بدون تقصير أو إجحاف للطاقات والقدرات الرياضية الذهنية والمعرفية، كما يتطلب الأمر الابتعاد عن التقليد الأعمى لأية عمليات تطوير جوهرية ومؤثرة قد تكون مناسبة في مجتمعات محددة وبنفس الوقت ربما تكون أكثر تدميراً من الجهل في مجتمعات أخرى، وذلك وفقاً لكثير من الاختلافات القائمة فيما بينها من حيث الثقافة واللغة والعادات والتقاليد ونمط الحياة اليومية السائد إحصائياً في المجتمع والذي قد يختلف من مدينة إلى أخرى حتى في نفس البلد.

ومن أكثر المشكلات التي يمكن أن تواجه مسيرة تطوير المناهج التعليمية في هذا العصر الاختلافات في وجهات النظر حول طرق تطوير المناهج والخلاف حول كميات وأنواع المعرفة والقدرات الذهنية التي يلزم إكسابها للطلاب في كل مرحلة، لدرجة تصل إلى حد التناقض بين من يطالب بتخفيف العبء الدراسي ومن يطالب بزيادته، في الوقت الذي يلزم لتطوير المناهج إجراء العديد من الأبحاث والدراسات التربوية التي من شأنها استكشاف التغيرات والمؤثرات، الظاهرة والخفية، على قدرات الطلاب في هذا العصر التكنولوجي، دراسات من شأنها استكشاف الفرق بين الطالب في العقود السابقة الذي كان يستطيع بشكل طوعي أن يحفظ عشرة أرقام هاتف وبين الطالب في هذا العصر الذي يحتفظ بمئات الأرقام في ذاكرة هاتفه المحمول وينسى أين وضعه قبل ثوانٍ معدودة!!

فمن جهة، قد يلزم التخفيف من العبء الدراسي في بعض المراحل الدراسية أو بعض التخصصات والمقررات التعليمية، بخاصة تلك التي ترتبط أكثر بالثقافة العلمية والأدبية والمعلومات العامة والتي قد تعترض طريق الطالب في بيئته وحياته اليومية الاعتيادية التي أصبحت مزدحمة معرفياً في عصر الفضائيات والبرامج والإنترنت والوسائل التكنولوجية المتنوعة، ولكن من جهة أخرى قد يلزم تكثيف الاهتمام بالتخصصات والمقررات التي تحفز وتنشط الحالة الذهنية وتنمي القدرات والمهارات المنطقية والتحليلية لدى الطلاب من خلال استحداث المناهج المرنة والذكية والمخصصة لتعويض قلة استخدام تلك المهارات والقدرات بسبب اعتمادهم على التكنولوجيا أكثر من طلاب الأجيال السابقة.

إن عملية تطوير التعليم والمناهج التعليمية من هذا المنظور قد تمت بالفعل في العقود السابقة بدون أية مشكلات تُذكر، سواء من خلال تقليل العبء الدراسي أو تكثيفه بحسب التخصصات والميول واحتياجات كل تخصص، وذلك عندما تم تقسيم طلاب الثانوية العامة إلى قسمين العلمي والأدبي، ثم إعادة تقسيم طلاب القسم العلمي إلى شعبتين، الرياضيات والعلوم، ولا نبالغ في هذا العصر أننا ربما نكون بحاجة لإعادة تقسيمهم جميعاً إلى فئتين جديدتين، أولاها هي فئة الطلاب المنغمسون في التكنولوجيا ولا يفارقون أدواتها المختلفة والأخرى هي فئة الطلاب الذين يستخدمونها نادراً أو بقدر معقول ولا يعتمدون عليها اعتماداً كلياً، ونظراً لصعوبة تحقيق هذا الأمر بشكل واقعي فيكون من الضروري التفكير في تطوير المناهج بطرق مرنة وذكية لتكون وسيلة فعالة ومناسبة لإكساب الطلاب كل المهارات والمعارف التي تنقصهم وفقاً لاحتياجاتهم المتنوعة وميولهم وعاداتهم اليومية واستخدامهم لأدوات هذا العصر وبما يتناسب مع تأثيراتها السلبية والإيجابية على حدٍ سواء، وبما لا يؤثر إجمالاً على حدود كمية المعرفة والزمن اللازم لاكتسابها في جميع الأحوال.

error:
Scroll to Top