نظرية الخطر والتأمين وعلاقتها بالنظرية الاقتصادية

المحتويات

المقصود بالنظرية

يختلف الكتاب فيما بينهم في المقصود بالنظرية، والشروط الواجب توافرها في الدراسات لكي تكون نظرية كاملة عن ظاهرة من الظواهر الاقتصادية أو الاجتماعية أو غيرها. على سبيل المثال نظرية الخطر والتأمين في هذا القسم.

وخوفًا من الخلط، ومنعًا للإسهاب، ومحاولة لتحديد موضوع البحث في أضيق الحدود، فقد رأيت أن أعرّف نظرية الخطر والتأمين بأنها مجموعة التعاريف Definitions of Terms، والتحليل Analysis، والعلاقات التي تربط بين الأسس الفنية التي تعتمد عليها هذه التعاريف والتي تكون فيما بينهما مجموعة متكاملة من الدراسة التي تفيد في تحديد کنه ظاهرة عدم التأكد التي تصاحب القرارات التي يتخذها الفرد أو المنشأة أو الدولة في مجال الحياة الاقتصادية لكل منهم.

نظرية الخطر والتأمين ترتبط بأكثر من تخصص

ترتبط نظرية الخطر والتأمين ارتباطًا وثيقًا بالنظرية الاقتصادية، إذ أنها تعالج الخسارة الاقتصادية لثروة الفرد من جهة، وثروة المنشأة من جهة أخرى، وللثروة القومية من جهة ثالثة. وتعتمد هذه النظرية اعتمادًا كبيرًا على النظرية الإحصائية والرياضية كأجهزة القياس والحساب. كما تهتم النظرية اهتمامًا كبيرًا بالنظريات الاجتماعية التي تفرق بين الظواهر المتعددة المتشابهة شكلاً والمختلفة موضوعًا، من حيث الأنواع العديدة للأخطار، وللتأمين، وللمقاييس والمعايير الواجب اختيارها.

وقد ترتب على ظاهرة ارتباط نظرية الخطر والتأمين بعدة دراسات متخصصة، أن قام علماء كل منها بدراسة الخطر والتأمين كجزء من دراساتهم في نظرياتهم الأصلية. وقد نشأ عن هذا التفرع أن اهتم كل فريق بدراسة الخطر والتأمين من ناحية معينة كانت دائمًا لا تتصل من قريب أو بعيد بالنواحي التي كان يدرسها الفريق الآخر. ونشأ عن ذلك أيضًا أن تفتت النظرية أو على الأصح ولدت متفتتة من الأصل. فعندما ظهرت صناعة التأمين، لم يهتم رجالها بجمع أجزاء النظرية من أيدي علماء التخصصات المختلفة بقدر اهتمامهم بجمع أجهزة القياس التي تمكنهم من تصريف منتجاتهم والتعامل مع عملائهم.

النظرية الاقتصادية أغفلت دراسة الخطر والتأمين

إذا ما استعرضنا كتابات الاقتصاديين حتى الآن يظهر لنا أن موضوع الخطر والتأمين لم يحظَ بنفس العناية الفائقة من الدراسة التي حظيت بها الموضوعات الاقتصادية الأخرى. وكل ما اهتم به الاقتصاديون من دراسات متعلقة بالخطر والتأمين لم تخرج عن موضوعات ثانوية خاصة، مثل تأثير عمليات التأمين في ميزان المدفوعات، ودور أموال التأمين في المجال الاستثماري، ودور شركات التأمين في سحب المدخرات من الأفراد. وحتى مثل هذه الدراسات تمت على مستوى الاقتصاد الكبير، أي اقتصاديات الدولة Macroeconomics ولم تنزل بحال من الأحوال إلى مستوى طبيعة عملية التأمين نفسها وهي الأهم. إذ أنها تسببت في وجود صناعة التأمين التي تؤثر في اقتصاديات الدولة وتتأثر بها.

أما الدراسات التي قام بها الاقتصاديون في سبيل تحليل فكرة التأمين نفسها فقد كانت محدودة وغامضة. لدرجة أنها لم تتمكن من تطوير الفكرة من الناحية الفلسفية الاقتصادية. ويرجع هذا إلى عدة أسباب نسوق أهمها فيما يلي:

أولاً: اقتصاديات الحركة والسكون

الخطر والتأمين بطبيعتهما ظاهرتان تلحظان بكثرة في اقتصاديات الحركة، وتخلو اقتصاديات السكون منهما إلى حد كبير. فالخطر الاقتصادي هو عدم التأكيد من الناتج المالي في المستقبل لقرار يتخذ في الحاضر. والتأمين هو الوسيلة التي يستعملها المؤمن لمجابهة المستقبل بما فيه من خسائر مالية ناتجة عن اتخاذ قرارات حاضرة. والخسائر المالية هذه تكون دائمًا ناتج حوادث لا يمكن فصلها عن الزمن.

ومن الملحوظ أن دراسة اقتصاديات الوحدة أو اقتصاديات المنشأة Microeconomics قد جرت في النصف الأخير من القرن الماضي في ثوب من السكون Statie، وشغلها عن أخذ عنصر الزمن في الحسبان ما كانت تفترضه من منافسة حرة بين الوحدات الاقتصادية. مما يستدعي معه افتراض علم المنتج التام بالمستهلك وأحواله، وعلم المستهلك التام بالمنتج ومنتجاته. وقد أدى افتراض الإحاطة التامة Perfect Knowledge هذا إلى نبذ فكرة عدم التأكد واعتبارها غير موجودة أصلا، سواء لدى المنتج أو المستهلك.

وقد استمر التفكير على هذا المنوال إلى أن بدأ الاقتصاديون مؤخرًا في دراسة اقتصاديات الحركة للوحدات، ومعها ظهرت فكرة الخطر والتأمين، وأخذت نصيبًا متواضعًا من التحليل الاقتصادي.

ثانيًا: فروض موضوع الخطر والتأمين

يناقش الاقتصاديون موضوع الخطر والتأمين على أساس فروض غالبًا ما تكون غير دقيقة من ناحية، وأبعد ما تكون عن الناحية العملية لصناعة التأمين من ناحية أخرى. فمن الملاحظ أن معظم علماء الاقتصاد القدامى كانوا يعرفون التأمين بأنه عملية بمقتضاها يستبدل شخص خسارة مالية كبيرة متوقعة بخسارة مالية صغيرة مؤكدة. ويبدو أنهم استمدوا هذا التعريف من تعريف الاحتمال في النظرية الرياضية، والذي برجع إلى أوائل القرن الثامن عشر. وإذا كان لهذا التعريف فضل كبير في التفرقة بين التأمين والمقامرة من الناحية الرياضية البحتة، إلا أنه لا يقدم لنا تفرقة موضوعية بينهما، تساعد في التعريف على طبيعة عملية التأمين.

ومن الواضح أن التعريف السابق يصنع وسائل منع وقوع الخسائر Lons Prevention Methods موضع التأمين نفسه. في حين أنه لا يقر ذلك بالنسبة للتأمين التبادلي البحت، مما لا يتفق مع واقع وطبيعة عمليات التأمين.

وعموما فإن الاقتصاديين لم يبذلوا الجهد الكافي في دراسة موضوع الخطر والتأمين بعمق دراساتهم للنظرية الاقتصادية نفسها. ما أدى إلى عدم الربط بين الاثنين ربطًا كافيًا لجعل الخطر والتأمين جزءًا مكملاً للنظرية الاقتصادية.

ثالثًا: العلاقة بين المعتقدات والحقائق

يعتقد الاقتصاديون أن العلاقة بين معتقدات الأفراد وآمالهم من جهة وحقيقة ما حدث لهم في حياتهم من جهة أخرى لا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال علاقة حتمية معينة يمكن قياسها والتنبؤ بها. وقد ترتب على ذلك أن اعتبروا عدم التأكد الذي يصاحب آمال ومعتقدات الأفراد من المدلولات أو البيانات النفسية التي يجب عدم أخذها في الحسبان عند دراسة اقتصاديات الأفراد. وقد دعا هذا بعض الاقتصاديين إلى الادعاء بأن ليس هناك من المنطق ما يستدعي شراء التأمين.

أما البعض الآخر من الاقتصاديين فقد أخذ برأي الرياضيين في العلاقة بين الشعور النفسي للفرد بعدم التأكد والاحتمال الإحصائي الذي يقيس درجة عدم التأكد هذه. ومؤداه أن عدم التأكد يكون في أقصاه عندما يكون احتمال وقوع حادث معين مساويًا للنصف. وينقص عدم التأكد تدريجيا حتى يتلاشى عندما يصل الاحتمال المذكور إلى الصفر أو الوحدة.

وحتى هذه الفئة القليلة من الاقتصاديين لم تشأ أن تدرس هذه العلاقة أكثر من ذلك، واكتفت بتبسيط الرياضيين لها. وبذلك أغمضت عينها عن موضوع عدم التأكيد الذي يلزم دراسته بتوسع قبل أي دراسة تأتي في موضوع التأمين.

كتّاب التأمين اغفلوا تجميع نظرية للخطر والتأمين

وعندما نستعرض الأبحاث التي قدمها كتّاب التأمين للمجتمع حتى الآن، نجد أنهم لم يحفلوا بتقديم نظرية متكاملة وافية في التخصص الذي يهتمون به. حقًا أنهم قسموا أنفسهم فيما بينهم إلى مجموعتين منفصلتين، اختصت إحداهما بالكتابة في صناعة التأمين بينما اختصت الأخرى بالكتابة في رياضيات التأمين التي تستعمل كمقاييس تستخدم بدورها في صناعة التأمين. وقد أدى هذا الانفصال في التأليف إلى عدة ظواهر نسوق أهمها فيما يلي:

أولاً: الكتابات غير الرياضية في الخطر والتأمين

اقتصرت الكتابات غير الرياضية في الخطر والتأمين على رجال صناعة تأمين. ومن الصعب – إن لم يكن من المستحيل – أن نجد كاتبًا واحدًا منهم يقدم كتابًا كاملاً عن هذا الموضوع. وقد ترتب على ذلك أن جاءت هذه الكتابات مقصورة على العادات والتقاليد الموروثة في التأمين، وكيفية استعمالها وتطبيقها. وواقع الأمر أن هناك من المؤلفات المتتابعة التي تزخر بها السوق العالمي، والتي تهتم بالمنتج النهائي، وطريقة إنتاجه، وطرق تسويفه، وإدارة منشآته، وتطوره، ما جعلت من التأمين صناعة لا تقل في تقدمها عن أي صناعة أخرى، إن لم تكن تفوقها جميعًا. وبالرغم من ذلك فإن هذا العملاق الضخم الذي يطلق عليه صناعة التأمين، مازال ينقصه الروح التي لن يمده بها إلا دراسة الموضوع من الناحية النظرية.

ثانيًا: الكتابات الرياضية في الخطر والتأمين

معظم المؤلفات التي عالجت رياضيات الخطر والتأمين – وهي الأخرى ليست بالقليلة – قد ظهرت لغرض واحد وهو تقديم المقاييس العملية لصناعة التأمين، مما جعل دراستها قاصرة على فئة قليلة من طلبة التأمين. فإذا أضفنا إلى ذلك ظاهرة تقرب من أن تكون حقيقية، وهي أن المواضيع الرياضية تقدم عادة للقراء في قالب جاف، يصعب معه فهم کنه المدلولات والتعاريف المتعلقة بالخطر والتأمين، لعرف السبب الذي يدعو البعض اعتبار الكتابات الرياضية لغة أجنبية يستعصي عليهم قراءتها.

وقد ترتب على الصعوبة الطبيعية للكتابات الرياضية الخاصة بالخطر والتأمين أن وقع غير الرياضيين من طلبة التأمين فريسة لما تحتويه هذه الكتابات من مغالطات ضمنية. أو فيما تصوروه من معانِ غير موجودة أصلاً في النظريات الرياضية. فيقرر أحد الاقتصاديين – اعتمادًا على نظرية الرياضيين في الأعداد الكبيرة – “أن بعض الاحتمالات لا يصح اعتبارها احتمالاً طالما أنه يمكن التنبؤ بأنها سوف تتحقق بالنسبة لبعض الأفراد”. ويكتب آخر قائلاً أن “إحصاءات الوفيات تظهر أن نسبة محددة من عدد معين من الأحياء سوف يموتون خلال العام”.

ثالثًا: غموض وحدة التأمين

ما زالت وحدة التأمين من الغموض بحيث يصعب على الباحث تعريفها تعريفًا دقيقًا. وقد ساعد على هذا الغموض كونها خدمة معنوية، تُقاس في صورة نقدية، على أساس سعر متغير في معظم الأحوال. يظهر ذلك بوضوح في حالات أسعار التأمين ذات الحصص البحتة، والأسعار القابلة للتعديل في نهاية مدة التأمين. أضف إلى ذلك أن عقود التعويض لا تحدد رقمًا واحدًا معينًا لمسئولية المؤمن مما يجعل هذه المسئولية غير محدودة في كثير من الأحيان.

وقد كان لهذه الظاهرة رد فعل عند الرياضيين مخالف لمثيله عند الاقتصاديين. فقد استمد الرياضيون فروضًا صماء، أمكنهم على أساسها حساب القيمة سواء كانت سعرًا أو تعويضًا. مثال ذلك ما جرى عليه العرف في أن مسئولية المؤمن لا تزيد عن أقل حد في حالة المسئوليات البديلة، بالرغم من أن سعر التأمين يحدد ويدفع مقدمًا. ولا يخفى على أحد أن هذه الفروض أدت إلى عدم عدالة الأسعار والتعويضات المحسوبة على أساسها على الأقل من الناحية النظرية.

أما الاقتصاديون فعندما تبين لهم غموض وحدة التأمين، آثروا الابتعاد عن هذه السلعة المحرجة، خوفًا من عدم الوصول إلى أسس واضحة للتعامل بها. ولم يدم هذا طويلاً، إذ أن علماء الاقتصاد المعاصرين قد وجدوا من الأساليب العلمية ما يسر لهم تحليل هذه السلعة بقصد تسعيرها ودفع تعويضاتها.

نظرية الخطر والتأمين والغرض منها

أما والحال هذه من تشتت دراسة موضوع الخطر والتأمين وعدم الاتفاق على تعاريف نمطية تخدم في تقريب المفاهيم وبطريقة واضحة أمام طلاب العلم، والافتقار إلى مجموعة متكاملة من الدراسات تصلح لأن تكون نواة لنظرية ثابتة تتطور بتطور الحياة الاقتصادية في المجتمع، فقد رأيت أن أقوم بدراسة وتحليل الموجود من الأسس العلمية النظرية لهذا الموضوع وأثره في كل من اقتصاديات الفرد والمنشأة والجماعة، بغرض توضيح دور النظرية في ظل النظرية الاقتصادية الأم.

طريقة البحث في الخطر والتأمين

سوف تعتمد كلية على الطريقة التحليلية للنظريات والتعاريف القائمة المتعلقة بموضوع الخطر والتأمين، والنظريات الاجتماعية والرياضية المتصلة به. ولم أقتصر في التحليل على النواحي النظرية، بل استدعى الأمر تحليل بعض النواحي العملية على أمل الوصول إلى تعاريف وتحاليل أدق للخطر والتأمين والاصطلاحات العلمية الخاصة بهما. مما يؤدي إلى تكوين نواة سليمة لنظرية متكاملة للتأمين.

طرق تعريف الخطر والتأمين

تختلف طريقة وضع التعريف باختلاف المدرسة التي ينتمي إليها القائم بوضعه من حيث نظرية المعرفة Theory of Knowledge التي يدين بها. وتسهيلا للبحث، يمكن جمع الطرق المختلفة للتعريف كما يلي:

  • طريقة التعريف حسب المدلول الظاهر Ontenaive Definition.
  • طريقة التعريف الحرفي المختصر Biverbal Definition.
  • وطريقة التعريف التحليلي Analytical Definition.
  • وأخيرًا طريقة التعريف على أساس موضع الإصلاح من المجموعة التي ينتمي إليها مع بيان المميزات التي تفرقه عن غيره فيها.

وفيما يلي وصفًا مختصرًا لكل منها:

التعريف حسب المدلول الظاهر يؤدي إلى الاهتمام أكثر ما يكون بإظهار معنى الاصطلاح عن طريق تقديم أمثلة خاصة بالاصطلاحات المشابهة والتي تنتمي إلى نفس المجموعة. مثال ذلك ما يرد في وصف الزهور “كل الورود والياسمين زهور”.

أما التعريف المختصر فإنه يؤدى دائمًا إلى تفسير الاصطلاح في كلمة واحدة وغالبًا ما تكون هذه الكلمة إشارة إلى كلمة أخرى يعتمد عليها في التفسير. وقد أدت هذه الظاهرة إلى أن سماه البعض بالتعريف الدائري. وما يؤخذ على هذا التعريف أنه لا يعطي فرصة للقارئ بأن يلتقي مع ألفاظ عدة ذات معانِ مبسطة تساعده في استيعاب معنى الاصطلاح.

والتعريف التحليلي لا يقتصر على مقابلة كلمات الاصطلاح بكلمات تفسر المعنى المجرد لها بل يتعدى ذلك إلى شرح وتحليل المفاهيم التي ينطوي عليها الاصطلاح. وقد تؤدي هذه الطريقة إلى الخروج عن تعريف الاصطلاح نفسه لشرح بعض الأساليب المتعلقة به. وهذا ما يحدث عادة مع الرياضيين، إذ أنهم يبدأون بتعريف الاصطلاح ويخرجون من التعريف بعلاقات ونتائج أخرى.

أما التعريف الأخير فهو يتم على أساس وضع الاصطلاح في موضعه من المجموعة التي ينتمي إليها. مع بيان أوجه الاختلاف التي تميزه عن الاصطلاحات الأخرى الموجودة في المجموعة. فالتعريف يقوم بعمليتين مختلفتين في آن واحد. الأولى أن يبحث عن المجموعة التي ينتمي إليها الاصطلاح، وبذلك يمكن معرفة طبيعته ومداه. والثانية أن يبحث عن مميزاته التي تميزه عن غيره من الاصطلاحات حتى المشابهة له، وبذلك تضعه في إطار خاص.

تعريفات التأمين

ونورد فيما يلي التعاريف المختلفة التي أطلقت على الخطر والتأمين، ومنها سوف نرى أن طرق التعريف الأربعة السابق ذكرها قد استعملت بأنواعها المختلفة بواسطة واحد أو أكثر من الكتاب. وسوف يظهر بوضوح أن الطريقة الأخيرة في التعريف تعاون الباحث أكثر من غيرها في الوصول إلى تعريف شامل يلائم طبيعة التأمين والاصطلاحات المتعلقة.

تعريف القانونيين للتأمين

بحسن التفرقة بين ثلاث فئات قانونية مختلفة، عند بحث تعريف التأمين عند القانونيين. هذه الفئات هي المحاكم، والمشرّع، والفقهاء.

ولم يتعرض القانونيون بفئاتهم الثلاثة لتعريف الخطر بالرغم من استعمالهم اللفظ وألفاظ أخرى مشتقة مثل الأخطار والمخاطر. وفي استعمالاتهم لتلك الألفاظ جميعًا لهم يفرقوا بينها وبين الحوادث والخسائر والأضرار.

أما بالنسبة لتعريفهم للتأمين، فقد سبق أن أوردنا التعاريف المختلفة التي اعتنقها المشرع والفقهاء والمحاكم في الفصل الرابع من هذا الكتاب وهو بعنوان: تعريف التأمين ووثيقة التأمين. وبنظرة عابرة نجد أن جميع التعاريف القانونية للتأمين تنتمي إلى طريقة التعريف حسب المدلول الظاهر. مما يؤدي إلى تأويلات متعددة بدون الوصول إلى الفصل الدقيق بين التأمين والطرق الأخرى المشابهة والتي يتكون منها جميعًا مجموعة وسائل مجابهة الخسائر المالية.

تعريف المؤرخين للتأمين

يختلف المؤرخون في تعريف التأمين باختلافهم في اختيار تاريخ نشأته والعناصر المميزة له. فأولئك الذين يعتقدون بأن التأمين نشأ مع الحضارة الإغريقية القديمة يعرفون التأمين بأنه: عملية دفع قسط خطر مرتفع لقروض السفينة Bottomry loans وقروض البضاعة Reapondentia loans.

أما أولئك الذين يقولون بأن التأمين نشأ عن طريق عقود برشلونة Bottomry contracts في القرن الرابع عشر فيعرفون التأمين على أنه: عملية تجميع الأخطار في مركز واحد بغض النظر عن عدد وحدات الخطر التي يمكن تجميعها.

والذين يعتقدون بأن التأمين نشأ مع نشأة رحلتي الشتاء والصيف عند العرب يعتدون في تعريفهم للتأمين على توزيع الخسارة على أكبر عدد ممكن من الأشخاص المعرضين للخطر.

وأخيرًا، فأولئك الذين يعتقدون أن التأمين نشأ في القرن الثامن عشر وبعد ظهور طرق القياس الدقيقة، فإنهم يعتمدون في تعريفهم للتأمين على إمكان استعمال الطرق الرياضية الفنية والسليمة في حساب قسط الخطر مقدمًا.

وتدل تعاريف المؤرخين في مجموعها بأنها هي الأخرى تنتمي إلى طريقة التعريف حسب المدلول الظاهر. فقد اعتبروا العقود القديمة والتي تمت لغرض أو لآخر من أغراض المعاملات التجارية، ولمجرد مشابهتها لعقود التأمين الحالية في أحد عناصرها المميزة، اعتبروا أن هذه العقود كانت تنظم عمليات التأمين في العصور المختلفة.

تعريف الاقتصاديين للتأمين

يسير الاقتصاديون في العصر الحديث وراء الرياضيين في تعريف التأمين. وقد أدى هذا إلى ظهور تعار يفهم في إطار جاف، خاصة وأنهم يميلون إلى الأخذ بالمبادئ الرياضية السهلة دون التعمق فيما وراءها من تحليلات رياضية. وقد سبق أن أوردنا عينة وافية من تعاريف الاقتصاديين للتأمين في الفصل الرابع من هذا المرجع. فعلى القارئ الرجوع إليه عند الحاجة.

ويلاحظ على تعاريف الاقتصاديين الحديثين أنها ترتبط تمام الارتباط بالمبادئ الرياضية في الخطر والتأمين عمومًا، وقانون الأعداد الكبيرة على وجه الخصوص. ومن الواضح أيضًا أن تعاريف الاقتصاديين هذه لم ترتبط ولم تربط نفسها بتعاريف التاريخيين أو القانونين. وأخيرًا فإن الاقتصاديين توسعوا في تعريف التأمين لدرجة أن أصبحت تعاريفهم تحوى من المعاني أكثر مما تتحمله فكرة التأمين في حد ذاتها.

تعريف كتاب التأمين

يختف كتّاب التأمين بين بعضهم البعض في تعريف التأمين باختلاف جنسياتهم من ناحية، والعصر الذي عالجوا فيه التأمين من ناحية أخرى. والأكثر من ذلك أن بعض الكتاب قد غيروا في تعريفهم للتأمين سنة بعد أخرى. وقد سبق أن أوردنا مجموعة وافية من تعاريف كتّاب التأمين بمختلف جنسياتهم في الفصل الرابع من هذا الكتاب وهو بعنوان: تعريف التأمين.

خلاصة تعريف التأمين

باستعراض التعاريف السابقة نجد أن كل كاتب قد اهتم بعناصر معينة دون عناصر أخرى في تعريفه للتأمين. وبتجميع الأركان الهامة في التعاريف المختلفة يمكننا وضعها تحت مجموعات بقصد تحليلها وإبراز أهميتها.

من جهة الشكل

فمن جهة الشكل فإن الكتاب قد أبرزوا أن التأمين هو: عقد، أو تفاهم، أو وعد، أو اتفاق، أو مبادلة، أو اتفاق متبادل، أو مشروع، أو مشروع اجتماعي، أو مشروع توزيع خطر، أو نظام اجتماعي أو خدمة اجتماعية.

من جهة الغرض من التأمين

أما من جهة الغرض من التأمين فإنهم يذكرون توزيع الخسائر، أو توزيع الخسائر الفعلية أو توزيع خطر الخسائر المالية. أو إحلال متوسط الخسارة بدلاً من الخسارة الفعلية، أو المشاركة في الأخطار، أو المشاركة في الخسائر، أو تحويل عبء الخطر. تعويض الخسارة، أو تعويض رأس المال الضائع. ومن ناحية أخرى فالبعض يقول بأن المقصود من ناحية التأمين هو التقليل من عدم التأكد، أو استئصال عدم التأكد. أو مجابهة الخسائر المالية غير المؤكدة، أو إحلال التأكد محل عدم التأكد، أو تحويل الجهل إلى المعرفة. وأخيرًا تقليل أو إنقاص الخطر.

من جهة الوسيلة المتبعة

أما من جهة الوسيلة المتبعة لتحقيق الغرض من التأمين فقد اقترح الكتاب نقل عبء الخطر، أو الضمان التبادلي. أو تحويل الخطر إلى الوسيلة من زاوية أخرى بأنها توزيع التكاليف، أو توزيع الخطر. توزيع الخسارة المالية نسبيًا، أو توزيع الخسارة المالية بين مجموعة كبيرة من الأشخاص. أو تجميع الحوادث، أو الاشتراك في رصيد عام أو تجميع عدد كاف من وحدات الخطر.

من جهة طبيعة مصلحة المؤمن له

ومن جهة طبيعة مصلحة المؤمن له فقد وصفها الكتاب بأنها مصلحة مادية موجودة أو متوقعة عند وقوع حادث. أو مصلحة أخرى تختلف عن المصلحة الناتجة عن التعاقد. أو خطر منفصل تنتج عنه خسارة مالية، أو مصلحة تأمينية.

من جهة طبيعة عوض المؤمن

أما من جهة طبيعة عوض المؤمن فيقول الكتاب بأنه يعوض المؤمن له، أو يدفع له نقودًا أو أي شيء ثمين آخر، أو يفيده ماديًا. أو أن المؤمن يتحمل الخسارة المالية لخطر اقتصادي، أو يتعهد بأن يدفع للمؤمن له. أو يعيد رأس المال أو أي خسارة مالية إلى ما كانت عليه قبل حدوث الحادث. وأخيرًا أن المؤمن يوافق على مجابهة أخطار معينة.

من جهة الأخطار المؤمن ضدها

وأخيرًا، ومن جهة الأخطار المؤمن ضدها، فإن هؤلاء الكتاب قد وصفوها بأنها يجب أن تكون أخطارًا معينة. أو موصوفة أو عارضة، أو غير معروفة مقدمًا، أو غير متوقعة، أو غير مؤكدة الوقوع. أو حوادث خارجة عن إرادة الطرفين، أو أخطارًا ينتج عنها خسائر اقتصادية. أخطارًا منفصلة، أو خسائر، أو حوادث أو حالات، أو ظواهر طبيعية. وأخيرًا حوادث منفصلة.

التعريف الشامل للتأمين

لقد اختلط الأمر على بعض الكتاب – كما هو واضح من تبويب التعاريف السابقة – فأوردوا النتيجة سببًا، والسبب وسيلة، والوسيلة شكلاً، وما إلى ذلك من خلط مما يمكن ملاحظته عند فحص تعاريفهم بدقة. وفي سبيل الوصول إلى تعريف شامل للتأمين يحسن البدء بإظهار العناصر الهامة التي يعتمد علها مثل هذا التعريف.

فقد لاحظنا أولاً أن التأمين خطة أو مشروع أو نظام. وثانيًا أن هذا النظام يصمم ليقلل من درجة الخطورة المعرض لها المؤمن له. وثالثًا أن هذا التخفيض من درجة الخطورة يحدث عن طريق نقل عبء أخطار معينة بكاملها أو جزء منها إلى حيث المجموعة الكبيرة المتشابهة التي تسير بالنظام سيرًا طبيعيًا إلى هذا التخفيض إلى أقل درجاته.

وعلى ذلك يمكن تعريف التأمين كالآتي:

“التأمين نظام يقلل من ظاهرة عدم التأكد الموجودة لدى المستأمن. وذلك عن طريق نقل عبء أخطار معينة إلى المؤمن، والذي يتعهد بتعويض المؤمن له عن كل أو جزء من الخسارة المالية التي يتكبدها”.

وهذا التعريف يظهر طبيعة التأمين كنظام، ويبعد عنه نوعية التأمين، وحرفية التعاقد، ووسيلة التعامل، وطرق الحساب بما فيها من نظريات رياضية أو إحصائية ليس لها حكم ثابت في النظرية.

تعريف الاصطلاحات المتعلقة بالتأمين

تعاريف التأمين التي سبق أن أوردناها والتي عالجها جميع الكتّاب، بما في ذلك التعريف الأخير، تحتوي عادة على اصطلاحات، إما أنها ترد صراحة في التعريف، وإما أنها تلمح ضمنًا من سياق المعنى. وعلى ذلك لن يكتمل تعريف التأمين إلا ببحث هذه الاصطلاحات والاتفاق على تعريف أمثل لها.

والاصطلاحات المكونة للتأمين كثيرة، بعضها لم يتعرض الكتاب لتعريفه اعتمادًا على وضوح معناه. والبعض الآخر تعرضوا له فخلطوا بين معاني الاصطلاحات لدرجة أصبح معها من الصعب تمييز واحد عن الآخر. ولغرض هذا البحث قد أطلقت مسميات على أهم الاصطلاحات المتعلقة بنظرية التأمين.

ويحتوي الفصلان الأول والثاني من هذا الكتاب مجموعة المصطلحات الفنية المتعلقة بنظرية الخطر والتأمين وتنحصر في الخطر ومشتقاته ومسبباته من ظواهر طبيعية وعامة وعوامل مساعدة سواء كانت مادية أم شخصية (إنسانية). وقد وضعت الكل هذه المصطلحات تعاريف خاصة بها واقترح لكل منها مسميات خاصه ومقاييس ومعايير مناسبة. وعلى القارئ أن يسترشد بالبيانات الموجودة في الفصلين بالإضافة إلى ما جاء بالفصلين الثالث والرابع الخاصين بموضوع إدارة الأخطار والتأمين كسياسة من سياسيات إدارة الأخطار.

وفيما يلي بعض الآراء المختلقة في تلك التعاريف:

الخطر Risk

يميل كتّاب التأمين عادة إلى تعريف الخطر بأنه عدم التأكد. أما الاقتصاديون فيميلون إلى التفرقة بين الخطر وعدم التأكد. على أساس أن الخطر هو مجموعة من المسببات ينتج عنها خسائر مالية يمكن قياسها من واقع الحياة على أساس نظريات الاحتمالات. ويعرفون عدم التأكد بأنه: “حالة نفسية ناتجة عن حقيقة واقعة تعكس معرفة الفرد وشعوره ورغباته بالنسبة لحالة معينة ولا يمكن قياسها كمًا”.

والفصل بين الخطر وعدم التأكد بما فيه من ميزة التفرقة بين الحالات التي يمكن تحديدها وقياسها، والحالات النفسية التي لا يمكن قياسها كمًا، لا يمكن قبولها على طول الخط، إذ أن معظم – إن لم يكن كل – حاجات الفرد أو الجماعة ومتطلباتهم وما يحول دون إشباعها تبدأ بحالات نفسية بحتة وتتدرج إلى أن تتبلور في صورة مادية قابلة للقياس.

مسببات الخطر Hazards

يعرف كتّاب التأمين لفظ Hazard بأنه “المسببات التي ينتج عنها أو تضاعف من احتمال الخسارة المالية” مما جعل البعض يطلق عليها تجاوزًا: مسببات الخسارة. أما الاقتصاديون فقد استعملوا اللفظ على أنه لفظ مكرر للحادث. وعلى ذلك لم يهتموا بتعريفه منفردًا.

الحوادث Perlis

لا يفرق كتّاب التأمين عادة بين مسببات الخطر Hazard والحوادث Perlis على أساس أن الاصطلاحين ناتجهما واحد وهو الخسارة المالية. وقد فاتهم أن مسببات الخطر يكون تأثيرها واضحًا وناتجًا ظاهرًا قبل حدوث الحادث المادي. وعلى ذلك فمسببات الخطر تخلق ظاهرة عدم التأكد عند الفرد أو المجموعة سواء تحقق الحادث فعلاً ونتجت عنه خسارة مالية، أو لم يتحقق بالنسبة لهما فلم ينتج عن عدم تحققه شيئًا.

الخسارة Loss

لم يعرف الاقتصاديون ولا كتّاب التأمين الخسارة اعتمادًا على وضوح معناها. وقد عرفتها قواميس التأمين على أنها النقص في كمية أو قيمة أو جودة الممتلكات. وكان يحسن بواضعي التعريف أن يضيفوا إلى ذلك النقص في الدخل أيضًا.

ومجموعة التعاريف المذكورة لا تكفي بأي حال من الأحوال لأن تكون نواة لنظرية مهما صغرت هذه النواة. ولكنها تحتاج إلى مجموعات أخرى من الأدوات القانونية والرياضية لكي تعاون في النزول بالتعاريف النظرية إلى مستوى النواحي العملية. ولحسن حظ دراسة التأمين، فإن هذه الأدوات قد تبلورت وظهرت في مظهر متكامل منذ زمن طويل، مما ترتب عليه نجاحها جميعًا في خدمة صناعة التأمين. ولن يقلل من أهمية هذه الأدوات بعض الفروض التي لا تمت إلى واقع الحياة بصلة، والتي افترضها الرياضيون لتسهيل عملياتهم الحسابية، مثل إمكان تطبيق قانون الأعداد الكبيرة والعشوائية في العينات. والأمر يؤخذ بالمثل بالنسبة لتقصير فقهاء القانون في متابعة التقدم السريع في صناعة التأمين. وما يتطلبه ذلك من إعادة النظر في العلاقات القانونية بين المعنيين بالأمر.

علاقة النظرية الاقتصادية بالتأمين

يدخل عنصر عدم التأكد في النظرية الاقتصادية في أكثر من باب. فالمنتج والمستهلك يعوزهما في أغلب الأحيان المعلومات المقارنة عن كثير من النواحي الاقتصادية التي تهم كلا منهما. ومن المعلوم أن السلوك الاقتصادي لكليهما يتأثر دائمًا بهذه الناحية، وتفشل غالبًا العوامل النفسية في تغيير مجرى سلوك أيهما. ومن هذا تظهر علاقة وأهمية الخطر بالنسبة للنظرية الاقتصادية الخاصة بالفرد والمنشأة Microeconomics.

وبما أن الأفراد الاقتصاديين بداخلهم عدم التأكد بالنسبة للمستقبل عن سلوكهم الاقتصادي في الماضي أو في الحاضر. فعلى ذلك يكون الارتباط أكيدًا باقتصاديات الحركة Dynamic Economics، ولا دخل له باقتصاديات السكون Statie Economics إلا في حدود الظواهر الطبيعية والعامة المعرض لها رأس المال والدخل في حالته الساكنة.

ولكي نبين أهمية عنصر الخطر على السلوك الاقتصادي للفرد، وعلاقة ذلك بعنصر الزمن نفترض أنه من الممكن أن يحدد الفرد حاجاته ويقسمها إلى حاجات مؤكدة وأخرى غير مؤكدة. ومن المؤكد أن كل فرد يعرف حاجاته المؤكدة في الوقت الذي يقوم فيه برسم الخطة لحاجاته الكلية حاليًا وفي المستقبل. ومن المؤكد أيضًا أن تكون نسبة الحاجة غير المؤكدة إلى الحاجة الكلية صغيرة جدًا في الحاضر، ولكنها تزداد في الخطة المستقبلة شيئًا فشيئًا. وتتضائل الحاجة المؤكدة إلى أن تصبح نسبتها إلى الحاجة الكلية ضئيلة جدًا في نهاية مدة الخطة. كل ذلك ناتج عن ظاهرة عدم التأكد التي تلازم الفرد في حياته المستقبلة من حيث دخله على الأقل.

وعندما يدخل التأمين في النموذج السابق، يضمن للفرد الاقتصادي دخلاً ثابتًا للمستقبل، مما يترتب عليه التقليل من درجة عدم التأكد أو زوالها نهائيًا. ويؤدي ذلك بدوره إلى إمكان التخطيط لمدة أطول على أساس معرفة الفرد لحاجاته المؤكدة وتأكده من إشباعها.

دور التأمين في الإنتاج

سبق أن بينا دور التأمين في التخطيط بالنسبة للحاجات المستقبلة. والنموذج السابق يمكن الاستفادة منه بالمثل بالنسبة لتخطيط تكاليف الإنتاج في المستقبل، أضف إلى ذلك أنه بدلاً من حجز جزء من أموال المشروع بعيدًا عن عملية الإنتاج في صورة احتياطيات لأصول المشروع، فإن التأمين يقوم بهذه العملية على خير وجه.

وللتأمين دور هام في إمكانية تمويل الإنتاج بالأجل. فطالما أن عوامل الإنتاج في المشروع مضمونة، طالما أن أصحاب المشروع يجدون يسرًا في الاقتراض بضمانها. ويدخل ضعن ذلك ضمان حياة أصحاب المشروع أنفسهم.

وحياة الفرد كعامل من عوامل الإنتاج معرضة هي الأخرى للانقضاء وللحوادث مما يوقف إنتاجيتها في وقت مبكر وغير منتظر. وللتأمين دوره الهام في تجميع قيمة حياة الفرد الإنتاجية وخصمها وتقديمها لأصحاب المشروع. وذلك سواء كانوا أفراد أسرة، أم شركاء، أم دائنين، أم منتفعين في أي من الصور المختلفة.

وكذلك الحال بالنسبة للممتلكات، فإن التأمين يقوم بدوره الطبيعي في تعويض أصحابها أو دائنيها أو المنتفعين بها عما يفقدونه من إنتاجية هذه الممتلكات عندما يحدث لها حادث ينزل بها خسارة مادية تلاشي أو تقلل من إنتاجيتها.

وأخيرًا فإن التأمين يزيد من إنتاجية عوامل الإنتاج بمختلف أنواعها في صورة غير مباشرة. وذلك عن طريق تطوير الوسائل العلمية والفنية لمنع وقوع الحوادث، وتقليل الخسائر، وتقديم العلاج والنصائح الطبية إلى المشتركين وغير المشتركين في التأمين.

دور التأمين في التوزيع

اتفق الاقتصاديون على نظرية للتوزيع، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم على عدد عوامل الإنتاج التي توزع عليها عوائد الإنتاج. وبالرغم من أن الرأي الساند بين معظمهم هو أن عوامل الإنتاج أربعة فحسب، إلا أن هذا لم يمنع كارل مارکس من أن يقول بأن العمل هو عامل الإنتاج المُنتج الوحيد. وعلى ذلك فعليه وحده يوزع الناتج. ولم يمنع ذلك أيضًا فرانك نايت من أن يدعي أن رجل الأعمال هو الوحيد المنتج في المشروع، وبذلك يستحق الناتج وحده.

وعلى النقيض من الرأيين السابقين، هناك من الاقتصاديين الرياضيين من يعتمد في تحليله لنظرية التوزيع على عوامل إنتاج عدة، ليمكن إحلال أحدها محل الآخر عندما تستدعي الضرورة ذلك، وبدون أن تحدد أسماؤها تحديدًا ثابتًا. وقد ساعد ذلك على إمكان تحليل أحد عوامل الإنتاج الأربعة المتفق عليها إلى أكثر من عامل.

إن أول من أشار إلى التأمين كعامل من عوامل الإنتاج له حق تقاسم الأرباح هو جون ستيوارت ميل عام 1848، حين قال بأن أرباح المشروع هي: “خليط من الفائدة والتأمين ومرتبات المشرفين على أعمال المشروع”. وقد أعقب ذلك أن تنبأ كارفر في عام 1894 بأن التأمين سوف يأخذ مكانه قريبًا كعامل خامس من عوامل الإنتاج بالنسبة لتوزيع الأرباح.

ولكن حدث أن أعقب هذين التصريحين أن اختلف الاقتصاديون فيما بينهم على تعريف عوامل الإنتاج، والشروط الواجب توافرها في كل منها، وأي منها يشترك في اقتسام الربح. ثم اختلفوا أخيرًا في مطابقة كل هذا مع طبيعة التأمين، والدور الذي يقوم به في الإنتاج.

وقد اختلط الأمر على هؤلاء، إذ كانوا يبحثون في تحليلهم للتأمين عن نفس الشروط المادية الواجب توافرها في عوامل الإنتاج الأخرى. ولم يشأ أحد المعارضين أن يقارن بين التنظيم والتأمين كعاملين متشابهين إلى أبعد حدود الشبه. وقد ترتب على ذلك عدم نجاح الدعوة حتى الآن. وكانت النتيجة أن التأمين لم ينجح في دخول نظرية التوزيع كشريك. ولكنه نجح على الأقل في مقاسمة كل عامل من عوامل الإنتاج في العائد الذي يصيبه من التوزيع.

نظرية التأمين في الاقتصاد الاشتراكي

تظل النظرية الاقتصادية نفسها ثابتة لا تتغير بتغير النظام الاقتصادي، وإنما الذي يتغير هو أدوات القياس فيها. والتأمين كنظام مرتبط بالنظرية الاقتصادية من جميع أركانها، لا بد وأن يتمشى مع النظرية في تطبيقاتها على النظم الاقتصادية المختلفة وإن اختلفت أدوات القياس فيه هو الآخر.

وتبقى مجموعة التعاريف التي وردت في سياق الكلام عن نظرية التأمين كما هي وبدون أي تغيير عند الكلام عنها في ظل النظام الاقتصادي الاشتراكي. أما عند التطبيق العملي للنظرية، فيظهر من الحاجات التي يتطلبها النظام ما يستلزم من الخبراء الرياضيين أن يغيروا في طرق القياس التي اعتادوا استعمالها في حالة النظريات الاقتصادية الأخرى.

التأمينات الاجتماعية في التطبيق الاشتراكي

فالتأمينات الاجتماعية – وهي عنصر مميز وهام في النظام الاقتصادي الاشتراكي – تتطلب خبرة سابقة بوحدات الخطر المعينة، لإمكان إتمام عمليات القياس. ولكن هذه الخبرة تكون غير متوفرة عادة عند بدء عمليات التأمين. هذه الظاهرة تتطلب من الرياضيين فروضًا وطرق قياس جديدة، تضمن سلامة المشروعات من الناحية المالية.

ويستلزم الأمر في بعض التأمينات الاجتماعية أن يغير الرياضيون من نظرتهم إلى شرط أو أكثر من الشروط الواجب توافرها في الأخطار القابلة للتأمين، نتيجة لتغير طبيعة الخطر في ظل النظام الاقتصادي الاشتراكي. مثال ذلك ظاهرة البطالة وعدم تقيدها بنظام إحصائي ثابت في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي، مما يجعل ظاهرة عدم التأكد الناتجة عنها غير قابلة للتأمين من الناحية العملية، وذلك لصعوبة إمكان حساب القسط مقدمًا. أما في ظل النظام الاقتصادي الاشتراكي، فتقل درجة خطورة ظاهرة البطالة هذه، كما يسهل التنبؤ بنتائجها مقدمًا، نتيجة لوجود الخطة الاقتصادية. وقد ترتب على هذا إضافة البطالة إلى مجموعة الأخطار القابلة للتأمين في الاقتصاد الاشتراكي.

نتائج التطبيق الاشتراكي

ويترتب على التطبيق الاشتراكي للنظرية الاقتصادية إعادة توزيع الثروة، مما يؤدي في معظم الأحوال إلى صغر وحدات الملكية الفردية من جهة، وإلى ضمان الدولة لإنتاجية الفرد وتعهداته المالية من جهة أخرى. وينتج عن هاتين الظاهرتين صغر الوحدات المعرضة للخطر Units of Exposure القابلة للتأمين والمملوكة لأفراد المجتمع. هذا في حين أن التطبيق الاشتراكي يؤدي في بعض الحالات إلى ظاهرة تجميع الوحدات الإنتاجية ووحدات الخدمات. وهذا يؤدى بدوره إلى كبر الوحدات المعرضة للخطر والمملوكة للدولة. هذا التباين الشاسع بين حجم الوحدات المعرضة لخطر بعينه يترتب عليه نتائج تحتاج إلى دراسة عملية إضافية.

ويزداد ارتباط التأمين بالنظرية الاقتصادية ويكثر وضوحًا في ظل التطبيق الاشتراكي. فالملكية العامة للمشروعات تؤدى إلى أن عبء التنظيم ينتقل من أشخاص يكون همهم الأول في ظل النظام الرأسمالي هو الحصول على ربح صافي في أي من صوره المتعددة، حتى ولو كان ذلك على حساب أمان المشروع في مستقبله، إلى أشخاص يكون همهم الأول هو ثبات الخطة وسيرها في الطريق المرسوم لها في حالة من التأكد التام. يترتب على ذلك حلول عامل التأكد في الإنتاج الاشتراكي محل عامل الربح في الإنتاج الرأسمالي.

رأي المؤلف

فإذا كان هذا هو الحال بالنسبة العلاقة التأمين بالإنتاج في ظل الاقتصاد الاشتراكي فكيف يقدر نصيب التأمين من التوزيع؟ هل هناك من سبب يمنع من أن ندعي – كما ادعى كارل ماركس من قبل بالنسبة للعمل – أن فائض الإنتاج هو عائد التأمين في الاقتصاد الاشتراكي؟ إنه من الأوفق أن يطلب الرأي والمناقشة من أساتذة الاقتصاد والتأمين، لعلنا ننجح في أن نرى ما لم يره غيرنا. (هذا مجرد رأي من المؤلف لمناقشة النظرية البحتة. وليس للقارئ أن يعتقد اعتقادًا راسخًا في إمكانية قبول هذا الرأي في المستقبل القريب).

المراجع

  • كتاب الخطر والتأمين – الأصول العلمية والعملية. تأليف: الدكتور سلامة عبد الله، كلية التجارة، جامعة القاهرة، 1967، 1974.
  • موسوعة التأمين، العلوم المالية والمصرفية، مركز البحوث والدراسات متعدد التخصصات، 2023.
error:
Scroll to Top