فلسفة المراجعات الفكرية

فلسفة المراجعات الفكرية

بالرغم من الكم الهائل للاختراعات والاكتشافات العلمية التي توصل إليها العلماء والباحثين في مختلف المجالات، والتي كان معظمها مسخراً لصالح البشرية جمعاء وساهمت في حل المشكلات وصناعة التطور والتقدم الحضاري والتنمية والازدهار في كل مكان حول العالم، إلاّ أن بعض أولئك المخترعين أبدو أسفهم وندمهم الشديد على اختراعات محددة توصلوا إليها وكانت سبباً في تأجيج الحروب والصراعات بين الأمم وزيادة حجم الدمار والخراب وارتفاع في أعداد الضحايا الأبرياء نتيجة لاستخدامها، حتى أننا لم نشهد، وربما لن نشهد أبداً، أن أبدى أي شخص ممن استعملوا تلك الاختراعات عن ندمه أو أسفه الصادق لاستعمالها المباشر أو غير المباشر في إيقاع الدمار والخراب وقتل الأبرياء!!

وإذا تأملنا موقف المخترعين الذين عبروا، بصدق، عن ندمهم وأسفهم على اختراعاتهم المدمرة نجد أنهم إنما كانوا في حقيقة الأمر يعبرون عن أسفهم وندمهم على تكبدهم عناء البحث والدراسة والتحليل وقضاءهم الوقت الطويل في مختبراتهم العلمية وبذلهم للجهد الكبير في التفكير حتى توصلوا إلى تلك الاختراعات التي تبين لهم لاحقاً أنها سيئة وما كان لهم أن يتوصلوا إليها ولا تتناسب مع غاياتهم وأهدافهم النبيلة، بحيث تسبب لهم ذلك في شعورهم الصادق بالندم والنابع من ضميرهم العلمي والبحثي المستقر في وجدانهم، وقد شكل لهم هذا الموقف نقطة تحول ودفعهم لإجراء ما يمكن تسميته مراجعة فكرية بحثية شاملة لما يقومون به من أبحاث ويتوصلون له من اختراعات، وهذا ما يفسر ندرة تكرار الاختراعات من هذا النوع من المخترع الواحد على مر الأجيال.

أما الأشخاص الذين استعملوا تلك الاختراعات في التدمير فإنهم لم يمروا بكل تلك المراحل البحثية والفكرية أصلاً، ولم يبذلوا الوقت والجهد بنفس القدر الذي بذله مخترعوها، بل ربما لم يكلفهم الأمر سوى توقيع الأوامر على الورق أو الاتصال أو الإشارة أو حتى مجرد ضغطة زر، وبالتالي فإن شعورهم بالندم، إن وُجد، فإنه لا يعدو أن يكون شعوراً وقتياً على استعمالها في المكان أو الوقت غير المناسب، وبالتالي فهو شعور لا يُشكل لهم نقطة تحول ولا يدفعهم إلى إجراء أية مراجعات فكرية من أي نوع، وذلك لأنهم نادمون على قرار لحظي وليس على مسيرة فكرية بحثية طويلة المدى أدت إلى اختراع سيء، حتى أنهم ربما يعاودون استخدام تلك الاختراعات مراراً وتكراراً في مواقف أخرى وقد يصل بهم الأمر أن يتمسكوا بها أكثر من مخترعيها الأصليين، لأنها تحقق غاياتهم وأهدافهم من استعمالها في حروبهم وصراعاتهم الخاصة.

وعلى الجانب الآخر من العلوم، وفيما يخص العلوم الإنسانية والنشاط الفكري الإنساني بشكل عام، فإن المتأمل لمسيرة الفكر والفلسفة والثقافة في عصرنا هذا يلحظ ندرة المفكرين والفلاسفة أولاً، وندرة مراجعاتهم وتحولاتهم الفكرية الإستراتيجية، كما يمكن أن يلحظ الثبات النسبي المستقر لأفكارهم ومعتقداتهم على مر الأجيال، إلى الدرجة التي يظلون فيها متمسكين بتلك الأفكار والمعتقدات حتى بعد تلاشي منابعها الأصلية التي أثبتت فشلها في تحقيق الأهداف والغايات التي تأسست من أجلها، بحيث تبدو حالة الثبات الدقيق لأفكارهم ومعتقداتهم ورؤاهم تجاه مختلف قضايا المجتمع العصرية وكأنها حالة من السبات العميق الذي يغيبهم عن كل ما يحدث من تغيرات وتطورات في مجتمعاتهم وسائر المجتمعات الأخرى حول العالم.

وبالقياس على فلسفة العلماء والباحثين المتخصصين في العلوم الطبيعية الذين شعروا بالندم وقام كل منهم بإجراء مراجعة فكرية بعد مسيرة بحثية طويلة انتهت بتوصله للاخترع الذي لم يتوافق مع أهدافه وغاياته، فإنه يمكن استنباط أن الثبات أو حتى التحجّر الفكري وندرة المراجعات والتحولات الفكرية الإنسانية الإستراتيجية في المجتمعات العربية والعالمية في هذا العصر هو نتيجة منطقية لكون معظم المفكرين والمثقفين والعلماء والباحثين الحاليين قد قاموا بنسخ أفكارهم ومعتقداتهم عن مفكرين ومثقفين وفلاسفة سابقين توارثوها عنهم عبر الأجيال، فهم لا يمتلكون المسيرة الفكرية الخاصة بهم ولم يمروا بكل المراحل الفكرية والبحثية التي مر بها أصحابها المفكرين الأصليين، والذين لو كانوا أحياء الآن لربما قاموا هم بالمراجعات والتحولات الفكرية التي تلزم وتتوافق مع كل التغيرات والتطورات الحالية وبما يساهم في حل المشكلات والصراعات وتحقيق الأهداف والغايات التي سعوا إلى تحقيقها في زمانهم.

إن إجراء أية مراجعة فكرية إستراتيجية ناجحة في هذا العصر، سواء كانت من قِبل الأفراد أو المؤسسات أو حتى المجتمعات، يستلزم أولاً، وقبل أي شيء آخر، وجود المسيرة الفكرية التي تتطلب المراجعة أصلاً، مسيرة فكرية طويلة المدى فيها من التركيز والتأمل والاستبصار أكثر مما فيها من التشتيت والتململ والاستهتار، وفيها من الاستقلالية والإقدام والانتصار أكثر مما فيها من التبعية والانهزام والانكسار، فلسفتها التأسيس والإبداع والابتكار وليس النسخ والتقليد والاندثار، ومتى توفرت مثل هذه المسيرة الفكرية فإنه يمكن إجراء المراجعة الفكرية بالمعنى الحقيقي لها، بحيث تعبر هذه المراجعة عن الرغبة في التغيير والحصول على نتائج أفضل على المدى الإستراتيجي البعيد وتحقيق الغايات الإنسانية النبيلة عوضاً عن تحقيق المصالح الفردية الضئيلة، تماماً مثلما حدث مع المخترعين في العلوم الطبيعية.

بقلم: د. م. مطفى عبيد

error:
Scroll to Top