الدورة الدموية الكهربائية

الدورة الدموية الكهربائية The Electrical Blood Circulation

عند التأمل في مسألة المخلفات وكيف تم التعامل معها بإعادة تدويرها وإنتاج ما هو صالح للاستخدام يمكننا ملاحظة أن هذه العملية كانت من أهم ما توصل له الإنسان لحفظ البيئة من جهة والاستفادة من تلك المخلفات في العديد من الصناعات المختلفة من جهة أخرى، بحيث ساهم هذا الأمر وبشكل كبير في إنقاذ البشرية من الغرق في مستنقع المخلفات على مر عقود طويلة من الزمن وعزز من قدرتها على إعادة استهلاك ما تم استهلاكه أصلاً بشكل تسلسلي لانهائي ساهم في التوفير في المواد الخام بشكل عام.

وبالنظر لمسألة الطاقة وبحث ما يمكن أن نقوم به تجاه ما يتم إهداره من الطاقة يومياً سوف نستنتج أننا بحاجة الآن، أكثر من أي وقت مضى، لتنفيذ آلية شبيهة بما نقوم به في مسألة المخلفات، تلك الآلية التي تمكننا من إعادة استهلاك الطاقة المستخدمة في كل مناحي الحياة اليومية بطريقة تشبه إلى حد كبير إعادة تدوير المخلفات وإنتاج المادة الخام منها تمهيداً لإعادة استخدامها.

والتشابه بين قانون حفظ المادة، الذي يؤكد أن المادة لا تُفنى ولا تُستحدث من عدم، وقانون حفظ الطاقة، الذي يؤكد أن الطاقة لا تُفنى ولا تُستحدث من العدم أيضاً، هو مفتاح النجاح لعملية إدارة عملية إعادة تدوير الطاقة بحيث تكون بنفس الأسلوب الذي اتبعناه في إدارة عملية إعادة تدوير المخلفات الإنسانية والصناعية، ولا عجب هنا أن يكون التشابه بين القوانين الفيزيائية الأساسية هو مفتاح وجوب التشابه في الحلول الإبتكارية لكل مسألة من المسألتين.

فعلى الصعيد المنزلي هناك مخلفات يومية يتم جمعها من المنازل بطريقة منظمة من خلال آلية تقوم بها كل بلدية في كل حي ومنطقة ومدينة، ولكننا لم نسمع يوماً عن بلدية تجمع الفائض من الطاقة في كل منزل، فكيف لنا تطبيق آلية شبيهة بآلية جمع المخلفات، إن الجواب هنا يتعلق بالكيفية التي يتم استهلاك الطاقة بها في كل منزل، ولكل مصدر للطاقة يمكننا التفكير بطريقة مختلفة لإعادة جمع الطاقة الصادرة منه.

فمثلاً إذا كنا بصدد إعادة تدوير مخلفات الطاقة في الأماكن التي تستهلك إضاءة كبيرة يمكن وضع خلايا كهروضوئية قريبة من كل مصدر إضاءة (لمبة) بحيث تقوم هذه الخلايا بتجميع الطاقة الضوئية وتحويلها إلى طاقة كهربائية، وهي في كل الأحوال كانت ستكون طاقة مهدرة، تمهيداً لإعادة استخدامها من جديد.

ويمكن تلخيص عملية إعادة استخدام الكهرباء في أننا نقوم بتوجيه الطاقة التي يتم تجميعها مرة أخرى للمصدر الذي يغذي المنزل عن طريق أسلاك إضافية موازية لأسلاك التغذية الرئيسية، بحيث يصبح المشهد بشكله العام شبيه بالدورة الدموية التي يؤديها القلب والشرايين والأوردة في جسم الإنسان ولكنها هنا ستكون دورة دموية كهربائية، وكما يقوم القلب بضخ الدم النقي لكل الجسم عن طريق الشرايين ثم تقوم الأوردة الدموية بإعادته تقوم شركة توزيع الكهرباء بعمل القلب وذلك بضخ الكهرباء للمنازل والشركات والمصانع عن طريق الأسلاك المستخدمة حالياً التي تعمل عمل الشرايين ولا ينقصنا هنا إلاّ تركيب أسلاك جديدة لتعمل عمل “الأوردة” التي ستقوم بإعادة إرجاع الكهرباء الفائضة إلى شركة الكهرباء تمهيداً لإعادة استهلاكها.

وهناك الكثير من أشكال الطاقة المتنوعة التي يمكن إعادة تدويرها، ففي حال إعادة تدوير الطاقة التي تُستهلك في أجهزة حركية، مثل المراوح الهوائية، فيمكننا ذلك عن طريق توصيل جهاز دينامو في ريشة المروحة بحيث يتم تحويل الطاقة الحركية إلى طاقة كهربائية، وبنفس الطريقة يتم إرجاع تلك الطاقة الجديدة إلى المصدر عن طريق “الأوردة” التي ستعود إلى شركة الكهرباء حاملة معها مخلفات الطاقة على هيئة طاقة أيضاً، وبالمثل يتم التعامل مع كثير من الأجهزة الأخرى التي تعتمد على الحركة في وظيفتها.

وفيما يتعلق بالطاقة الحرارية، يمكن الاستفادة من كل الأجهزة التي تُنتج الحرارة في المنازل والمصانع، ففي أي مطبخ يوجد غاز للطهي يُصدر الحرارة ويتم استخدامه يومياً، لذا فإن توصيله بجهاز لتحويل الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربائية أيضاً ومن ثم إرسال تلك الطاقة عبر أسلاك الأوردة بنفس الطريقة لتعود إلى شركة الكهرباء. الأصوات والأجهزة الصوتية يمكن أيضاً الاستفادة منها من خلال وضع أجهزة استشعار متخصصة تقوم بتجميع أصوات الضوضاء وتحويلها إلى طاقة كهربائية أيضاً وإرسالها عبر الأوردة لتعود لشركة الكهرباء.

في المياه الجارية داخل المنزل أو حتى العمارات، مياه الحمامات والمطابخ، والتي تسقط سقوطاً حراً تحت تأثير عجلة الجاذبية، يمكن أيضاً الاستفادة من هذه الحركة لتوليد طاقة حركية ومن ثم تحويلها لطاقة كهربائية، وهي نفس الطريقة التي يُستفاد منها في مياه الأنهار عن طريق بناء السد لتوليد الطاقة، بحيث يتم تجميع كميات الطاقة الصغيرة وإعادة إرسالها إلى المصدر أيضاً.

كل تلك الأمثلة البسيطة وغيرها الكثير والكثير من الأمثلة الأخرى التي يمكن التعامل معها بنفس الطريقة لتحويل الطاقة بمختلف أشكالها إلى طاقة كهربائية ومن ثم تجميعها في كل منزل أو مصنع وإعادة إرسالها لشركة توزيع الكهرباء من خلال الأسلاك التي تعمل عمل “الأوردة” لتكون بمثابة عملية تدوير شاملة للطاقة.

كما أنه وليس بالضرورة أن يتم إرسال كل الفائض في كل المنازل والمصانع لشركة الكهرباء، بل قد تكون فكرة إعادة الاستفادة من تلك الطاقة في نفس المنزل أو المصنع أيضاً أكثر يسراً ولكن بطريقة تؤسس لها شركة الكهرباء بشكل فني سليم عن طريق تجهيز المنازل لهذا الغرض بحسب خطة عمل تتناسب مع كل منطقة. فمثلاً في مناطق معينة بعيدة قد يستلزم الأمر بناء خطة للاستفادة من الطاقة التي يتم إعادة تدويرها في نفس المكان، وفي مناطق أخرى مكتظة وقريبة قد يكون من الأجدر إعادة تجميع الطاقة المدورة إلى المصدر تمهيداً للتحضير لاستخدامها بطرق أخرى قد تكون أنسب، وهكذا بحسب خطط عمل كل منطقة أو بلدية.

كذلك يتطلب تنفيذ مثل هذه الأفكار بشكل شامل أن يكون هناك تنسيق وتعاون بين البلد الذي سوف يطبقه والشركات المصنعة لكثير من الأدوات المنزلية والأجهزة بحيث يتم إدماج أجهزة تحويل الطاقة الهادفة لإعادة تدويرها في كل جهاز، كالمراوح وأجهزة الطبخ وغيرها، وبطبيعة الحال لا يمكن التفكير في هذه الطريقة لإعادة التدوير بشكلها المكلف من خلال تمديدات جديدة للأسلاك التي سوف تعمل عمل الأوردة إلاً إذا كان تطبيقها سيكون بشكل استراتيجي بعيد المدى ويشتمل على تدوير أشكال متعددة للطاقة واشتمال أكبر عدد ممكن من الأجهزة حتى لا تكون التكلفة أكبر من الفائدة المرجوة منها.

ومن الممكن أن تتسبب هذه الطريقة لتدوير الطاقة وإعادة استخدامها في ظهور نقلة نوعية في المجتمع الصناعي برمته من حيث تصنيع الأجهزة بشكلها الجديد على المستوى العالمي كما أنها يمكن أن تأخذ وقتاً حتى تكتمل بانتشار استخدام كثير من البلدان لهذا النظام بشكل شامل تدريجياً من حيث البنية التحتية وتعاون كل الشركات المصنعة للأجهزة لتلبي الاحتياجات الجديدة.

قد تكون كل الأفكار التي طُرحت هنا بسيطة إذا تحدثنا عنها بشكل منفرد، ولكن الرؤية الإجمالية هي التي ستجعل الأمر أكثر تشويقاً، وهي أن يتم إعادة هندسة وبناء خطوط الكهرباء المغذية للمنازل والشركات والمصانع وسائر الأماكن المستهلكة للكهرباء لتكون باتجاهين مثل الشرايين والأوردة حتى يتم استخدامها في إعادة تجميع فائض الطاقة هو الجديد هنا، بحيث يتم الاستفادة في العقود القادمة من الطاقة البسيطة التي يتم تجميعها يومياً، تماماً مثلما يحدث في المخلفات، فمن منا كان يتصور يوماً أننا يمكن أن نلجأ لتجميع بعض المخلفات البسيطة من المنازل أو حتى يتصور الفائدة التي ستجنيها الدول من تلك المخلفات البسيطة بعد التجميع، ولكن هذا حدث وأصبحت عملية إعادة تدوير المخلفات أمراً يكاد يكون لا غنى عنه في كثير من الدول وحتى العًظمى منها.

وبحسب الزيادة السكانية السنوية المتنامية والزيادة في الاستهلاك اليومي للطاقة في كل البلدان، وبخاصة في موسمي الصيف والشتاء الأكثر استهلاكاً، فإن العالم اليوم بحاجة لمثل تلك النظم والآليات الهادفة لإعادة تدوير واستهلاك الطاقة أكثر من أي شيء آخر، وبذلك نكون قد وضعنا اللبنة الأساسية للتوفير في استهلاك الطاقة في العقود القادمة ولصالح أجيالنا في المستقبل الذي نأمل أن يكون أفضل للجميع.

* من المقالات المشاركة في مسابقة الكتابة الإبداعية لمقالات متخصصة في قضايا الطاقة والتي تتضمن رؤى إستراتيجية للعقد (2014-2024) للطاقة المستدامة في العالم. وتم تقديم المشاركة للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في شهر أكتوبر 2013، تمهيداً لعقد المؤتمر العالمي لأمن واستدامة الطاقة الذي نفذته الأمم المتحدة في نيويورك يومي الحادي عشر والثاني عشر من شهر ديسمبر 2013م.

error:
Scroll to Top