المسئولية الدولية – طبيعتها وموانعها وأحكامها

ماهية المسئولية الدولية

شرح ماهية المسئولية الدولية، المركز القانوني الذي تُنشئه المسئولية الدولية، والأفعال المستوجبة للمسئولية الدولية. موانع المسئولية الدولية وأحكام الدعاوى الدولية.

أولاً: المركز القانوني الذي تُنشئه المسئولية الدولية (1):

من الأمور الظاهرة أن كل نظام قانوني يفرض على أشخاصه التزامات ويرتب لهم حقوقًا. والالتزامات التي يفرضها النظام القانوني على أشخاصه التزامات واجبة التنفيذ، بمعنى أنه إذا تخلف الشخص القانوني عن القيام بتنفيذ التزامه تحمّل تبعة هذا التخلف، وإلا فلا معنى لوجـود الالتزام. فالالتزام لا يصدق عليه هذا الوصف القانوني إلا إذا ترتب على عدم الوفاء به تحمل التبعة أو المسئولية. والتعهـد لا يكون ملزمًا إلا إذا ترتب الجزاء على مخالفته. والنظام القانوني الدولي – شأنه في ذلك شأن الأنظمة القانونية الأخرى – يفرض التزامات على أشخاصـه. وهذه الالتزامات واجبة النفاذ، سواء أكان مصدرها حكمًا اتفاقيًا أي مثبتًا في معاهدة، أم حكمًا عرفيًا، أم حكمًا قررته المبادئ العامة في النظم القانونية المختلفة. فإذا تخلف الشخص القانوني الدولي عن القيام بالتزامه ترتب على تخلفه – بحكم الضرورة – تحمّل تبعة المسئولية الدولية لامتناعه عن الوفاء به.

وارتباط الالتزام الدولي بحكم الضرورة بالمسئولية الدولية أمر مسلّم به، مُجمع عليه. وقد جرى عليـه العرف بين الدول، وتولّد الشعور لديها بضرورته. وقد نصت عليه صراحة بعض أحكام الاتفاقات الدولية، كنص المادة الثالثة من اتفاقية لاهاي الرابعة المنعقدة سنة 1907 في شأن تنظيم قواعد الحرب البرية. وأيدته أيضًا المحكمة الدائمة للعـدل الدولي في أحد أحكامها، إذ قررت أن من مبادئ القانون الدولي، بل من الأحكام القانونية العامة، أنه يترتب على إخلال الدولة بتعهداتها التزامها بالتعويض عنه على نحوِ كافِ، ولو لم ينص على ذلك في الاتفاقية التي حصل الإخلال بأحكامها (2).

وينبني على ما سبق أنه تنشأ – في حالة الإخلال بالتزام دولي – رابطة قانونية جديدة بين الشخص القانوني الدولي الذي أخل بالتزامه أو امتنع عن الوفاء به، والشخص القانوني الذي حدث الإخلال في مواجهته. ويترتب على نشوء هذه الرابطـة الجـديدة أن يلتزم الشخص القانوني الذي أخل بالتزامه أو امتنع عن الوفاء به بإزالة ما ترتب على إخلاله من النتائج. كما يحق للشخص القانوني الذي حدث الإخـلال، أو عدم الوفاء بالالتزام في مواجهته، أن يطالب الشخص القانوني الأول بالتعويض Réparation. وهذه الرابطة القانونية – بين من أخل بالالتزام ومن حدث الإخلال في مواجهته – هي الأثر الوحيد الذي يترتب في دائرة القانون الدولي على عدم الوفاء بالالتزام الدولي. والأمر على خلاف ذلك في دائرة القانون الداخلي، ذلك أن الإخلال بالالتزام في دائرته قد يترتب عليه في بعض الأحيان نشوء رابطتين: الأولى بين من أخل بالالتزام أو امتنع عن الوفاء به ومن حصل الإخلال أو عدم الوفاء في حقه، وبمقتضاها يتحمل الأول المسئولية المدنية ويحق للثاني المطالبة بتعويض الضرر، والثانية بين من أخل بالالتزام وبين الجمع الإنساني الذي يتمثل في الدولة، وبمقتضاها يتحمل الأول المسئولية الجنائية ويحق للدولة أن تطالب بإنزال العقوبة عليه الاقتضاء. أما القانون الدولي فيرتب الأثر الأول وحده، وذلك لاختلاف الأوضاع في دائرته عن الأوضاع التي تسود دائرة القانون الداخلي (3).

وقد أجمع فقهـاء القانون الدولي على إطلاق اصطلاح “العمل غير المشروع” على كل مخالفة للالتزام الدولي الذي تفرضه قاعدة من قواعد القانون الدولي. ولما كان موضوع كل التزام دولي هو تصرف الدولة على نحو معين في مواجهة الدولة أو الدول التي تراضت معها على إنشاء القاعدة القانونية التي فرضت هذا الالتزام، سواء أكان هذا التصرف هو القيام بعمل معين أم الامتناع عن القيام به، فإن العمل غير المشروع يتطلب لوجوده توافر عنصرين: (الأول) أن يكون التصرف المعين منسوبًا إلى الدولة، أو بمعنى آخر، يجب أن يكون القيام بالعمل المعين، أو عدم القيام به، منسوبًا الى الدولة الملتزمة. (الثاني) أن يكون هذا التصرف قد تم مخالفًا لما تقضى به القاعدة القانونية الدولية.

والرابطة القانونية التي ينشئها العمل غير المشروع تقـوم أصلا بين أشخاص القانون الدولي، ولا يمكن أن يكون أحد أطرافها من غيرهم. وقد ذكرت محكمة العدل الدولي في رأيها الإفتائي الخاص بالتعويض عن الأضرار الصادر في 11 من أبريل سنة 1949، أن المطالبة بالمسئولية تأخذ شكل المطالبة بين وحدتين سياسيتين، متساويتين في القانون، متماثلتين في الشكل، وهما معًا من الأشخاص المباشرة للقانون الدولي (4). ويُلاحظ في هذا الشأن أن بعض الهيئات – كهيئة الأمم المتحدة مثلاً – تستمتع بوصف الشخصية الدولية في الحدود المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية التي أنشأتها. فقد نصت المادة 104 من ميثاق الأمم المتحدة على ما يلي: “تتمتع الهيئة في بلاد كل عضو من أعضائها بالأهلية القانونية التي يتطلبها قيامها بأعباء وظائفها وتحقيـق مقاصدها” (5). وقد ثار البحث بمناسبة مقتل الكونت برنادوت، وسيط الأمم المتحدة، في أثناء تأديته لوظيفته هذه في فلسطين، فيما إذا كانت الهيئة تستطيع أن تطالب بالتعويض حكومة إسرائيل إذا ما ثبتت مسئولية الأخيرة عن ارتكاب الحادث. فطلب الأمين العام للأمم المتحدة من الجمعية العامة للهيئة أن تبحث مسألة تعويض موظفي الهيئة عمـا يلحقهم من أضرار في أثناء تأدية وظائفهم، وناقشت الجمعية العامة هذه المسألة وقررت في دورتها الثالثة في 3 من ديسمبر سنة 1948 أن تطلب رأيًا استفتائيًا من محكمة العدل الدولية. وقد أصدرت المحكمة فتواها في هذه المسألة بتاريخ 11 من أبريل سنة 1949، وقد جاء فيها: ” رغم أن هيئة الأمم المتحدة ليست دولة أو دولة فوق الدول Super – State إلا أنها شخص دولي، ولها بهذا الوصف الأهلية اللازمة لحفظ حقوقها يرفع الدعاوى الدولية على الدول الأعضاء وغير الأعضـاء في الهيئة، وذلك للحصول على تعويض عن الأضرار التي تلحق بها أو تلحق بموظفيها (6)، وأن هيئة الأمم المتحدة حين ترفع هذه الدعاوى لا تستطيع القيام بذلك إلا إذا كان أساس دعواها المساس بحق ثابت لها” (7). وعلى ذلك فإن لهيئة الأمم المتحدة ولغيرها من المنظمات الدوليـة الأهلية القانونية التي تمكنها من مزاولة نشاطها، وتحقيـق أغراضها، واكتساب الحقوق اللازمة لذلك. ولها بالتالي أن تقاضي الدول لمطالبتها بما يكون لها من حقوق، سواء أمام المحاكم الداخلية أم المحاكم الدولية. غير أن النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية يقصر حق رفع الدعاوى أمامها على الدول، إذ تنص المادة 34 فقرة أولى من النظام على أنه: “للدول وحدها الحق في أن تكون أطرافًا في الدعاوى التي تُرفع للمحكمة” (8).

ويتفرع على أن المسئولية الدولية علاقة قانونية بين أشخاص القانون الدولي، أن أحكامها لا تخاطب الأفراد بصفتهم هذه، وذلك طبقًا للأحكام الوضعية للنظام الدولي الحاضر. وسنرى في المبحث التالي أنه إذا تظلّم أحـد الرعايا الأجانب المقيمين في إقليم دولة أخرى من أضرار لحقت شخصه أو ماله، فإن الدولة التي هو من رعاياها هي التي تقاضي الدولة التي صدر عنها الفعل غير المشروع. أما الفرد فأمامه المحاكم الداخلية للدولة المتسببة في الضرر ليتظلم إليها، فإذا ثبت قبلها إنكار للعدالة لجأ إلى دولته لتحصل له على حقه عن الطريق الدبلوماسي، أو عن طريق المحاكم الدولية (9).

وقد انتقد بعض الفقهاء حرمان الأفراد من حق مقاضاة الدول أمام المحاكم الدولية. وهم يسلّمون بأن كل دولة لهـا حق ثابت ومصلحة مؤكدة في أن ترى حقوق رعاياها محترمة مكفولة من جانب الدول الأخرى، وأنها – تبعًا لذلك – لا تتردد في رفع دعوى المسئولية الدولية إذا حصل اعتداء على حقوق رعاياها نتيجة مخالفة دولة أخرى لأحكام القانون الدولي، وعدم تنفيذها لالتزاماتها الدولية. ولكنهم يرون أن حرمان الفرد مقاضاة الدولة الأجنبية التي مسّت بحقوقه أمام المحاكم الدولية فيه الكثير من التعسف. ذلك أن دولته قد تكون راغبة عن رفع الدعوى نيابة عنه على الدولة الأخرى لاعتبارات سياسية لا دخل لها بموضوع قضيته أو بسبب مقتضيات المجاملة والحرص على الصـلات الودية بينها وبين تلك الدولة. يُضاف إلى ذلك أن الاتصالات الدبلوماسية بين الدول وإجراءات رفع الدعاوى فيما بينها تستغرق في العادة وقتًا طويلا يؤدي الى تأخر حصول الفرد على حقه، فضلا عن الصعوبة في تقديم الأدلة والقيام بعبء الإثبات إذا تراخي نظر الدعوى مدة ليست بالقصيرة. لذلك يقترح هؤلاء الفقهاء السماح للأفراد بالتظلم إلى محكمة لها صفة دولية تقام خصيصًا لهذا الغرض، ويذهبون إلى أنه إذا وُضعت ضمانات خاصة للحيلولة دون الدعاوى الكيدية أو غير الجدية، فإن هذا التعديل في أحكام الدعاوي الخاصة بالمسئولية الدولية في حالة وقوع أضرار بالأفراد يكون تعـديلا جديرًا بالبحث والإقرار (10).

ولما كانت المسئولية الدولية علاقة بين الدول التي تتمتع بالشخصية الدولية فإنه يترتب على ذلك أن الدول غير التامة السيادة، كالدول المحمية، والدول التابعة، والأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي – كالأقاليم المشمولة بنظام الانتداب أو الوصاية الدوليين – وكذلك المستعمرات، لا يمكن أن تكون أطرافًا في المركز القانوني الذي تنظمه قواعد المسئولية الدولية. ففي حالة الدولة المحمية تقوم الدولة الحامية بتمثيلها في علاقة المسئولية الدولية المتعلقة بها، إذ مادامت الدولة الحامية هي التي تدير شئونها الدولية فهي المسئولة عن أفعالها أمام الدول الأخرى، وهي التي ترفع الدعاوى نيابة عنها على الدول الأخرى التي صدر عنها العمل غير المشروع. وهـذا هو الحكم بالنسبة للدولة التابعة التي تمثلها دولة الأصل في النطاق الدولي. وغنى عن البيان أنه إذا كانت الدولة المحمية أو التابعـة تتمتع بنصيب من الشخصية الدولية، فإنها تكون مسئولة دوليًـا على قدر هذا النصيب وفي الحدود التي تتكفل ببيانها الاتفاقية التي أنشأت الحماية، أو متحت الحكم الذاتي. ولا يمكن في مثل هذه الحالات وضع مبدأ عام مقدمًا، وإنما يرجع إلى ظروف كل حالة على حدة للتعرف على مدى ما تتمتع به وحدة إقليمية معينة من شخصية دولية.

وأحكام المحاكم الدولية ولجان الدعاوى المختلطة مستقرة على مسئولية الحكومة المركزية عن أفعال الولايات المختلفة المكونة للدولة المتحدة. وذلك أن الدول التي تكون فيما بينها دولة اتحادية Federation تفني الشخصية الدولية لكل منها، وتكون كلها شخصًا دوليًا واحدًا. ويختلف الـحكم بالنسبة للدول التعاهدية Confederation ودول الاتحـاد الشخصي، نظرًا لاحتفاظها بشخصيتها الدولية واستقلال كل منها بالإشراف على علاقاتها الدولية.

ثانيًا: الأفعال المستوجبة للمسئولية الدولية

من الأمور المعلومة أن نشاط الدولة وتصرفاتها هما في الحق والواقع نشاط وتصرفات تصدر عن الأفراد الذين يكونون شعبها. غير أن قواعد القانون الدولي تتلقى هذه التصرفات وتسندها إلى الدولة إذا ما توافرت فيها شروط وأوضاع خاصة، بحيث تصبح عندئذٍ منسوبة إلى الدولة مباشرة، لا إلى الأفراد الذين صدرت عنهم هذه التصرفات. أما إذا لم تتوافر هذه الشروط فإن التصرفات تظل منسوبة إلى الأفراد الذين صدرت عنهم، وتبقى حبيسة دائرة القوانين الداخليـة، لا تتعداها إلى دائرة القانون الدولي.

ومن المعلوم أيضًا أن القانون الدولي هو النظام القانوني المختص ببيان الشروط اللازم توافرها كي ينسب التصرف إلى الدولة. وقد يحيل في هذا الشأن إلى قواعد القانون الداخلي. ويمكن القول، على وجه العموم، بأن التصرفات تنقسم في هذا الخصوص قسمين رئيسيين: (أ) التصرفات التي تصدر عن أعضاء الدولة وممثليها وعن سلطاتها المختلفة. (ب) التصرفات التي تصدر عن الأفراد العاديين. وسنتكلم عن كل قسم منهما فيما يلي:

أولاً: التصرفات التي تصدر عن أعضاء الدولة وممثليها وعن سلطاتها

من القواعد المجمع عليها في القانون الدولي أن التصرفات التي تصدر عن أعضـاء الدولة، بوصفهم أدواتها في التعبير عن إرادتها القانونية، لا تُنسب إلى أشخاص هؤلاء الأعضاء، وإنما تُنسب إلى الدولة التي يقومون بتمثيلها بحكم وظائفهم أو بحكم المراكز التي يشغلونها فيها. والشرط الجوهري الذي يتطلبه القانون الدولي لنسبة التصرف إلى الدولة هو أن يكون هذا التصرف قد صدر عن عضو من أعضاء الدولة بوصفه ممثلا للدولة، لا بوصفه فردًا من الأفراد العاديين، أو بمعنى آخر، يجب أن يكون التصرف قد صدر عن عضو الدولة بحكم قيامه بوظيفته، أو يحكم المركز الذي يشغله فيها.

ولد سبق أن ذكرنا أن العضو Organe تربطه بالشخص القانوني الذي يقوم بتمثيله رابطة معينة: هي رابطة الوظيفة أو المركز، وأنه بحكم هذه الوظيفة أو المركز، تتلقى قواعد القانون الدولي إرادة هـذا الممثل أو نشاطه فتنسبهما إلى الشخص الدولي، وترتب عليهما آثارًا قانونية تلحقه في علاقاته مع غيره من أشخاص القانون الدولي. ومن المعلوم أن رابطة الوظيفة أو المركز تحكمها وتنظمها قواعد القانون الداخلي، في حين أن تلقى الإرادة الفردية لصاحب الوظيفة أو المركز، ورفعها إلى مرتبة الإرادة القانونية للشخص الدولي، تحكمها وتنظمها قواعد القانون الدولي.

وعضـو الدولة قد يتصرف في الحدود التي رسمتها لاختصاصه قواعد القانون الداخلي، وفي هذه الحالة يُنسب تصرفه مباشرة إلى الدولة. فإن كان التصرف عملا غير مشروع تحملت الدولة تبعة المسئولية الدولية عنه. وقد يكون التصرف قد صدر عن عضو الدولة تجاوزًا منـه لحدود الاختصاص الذي رسمته لوظيفته أو لمركزه قواعد القانون الداخلي. وقد يصدر عن عضو الدولة تصرف يخالف التعليمات الصريحة التي تلقاها من دولته. فهل يُنسب التصرف في هاتين الحالتين إلى دولته؟ إن العرف الذي جرت عليه الدول على وجه الاستمرار يقرر أن تصرف عضو الدولة في كلتا الحالتين يُنسب إلى الدولة مباشرة، وأن الدولة تتحمل تبعة المسئولية الدولية متى كان هذا التصرف عملا غير مشروع. والحكمة في تقرير هذا المبدأ هي أن قواعد القانون الدولي تسند إرادة العضو الدولي ونشاطه إلى الدولة مباشرة، ما دام التصرف قد صدر عن العضو بوصـفه أداة التعبير عن إرادة الدولة. أما تجاوزه لحدود الاختصاص الذي رُسم له، أو مخالفته لتعليمات دولته، فمسألة داخلية بحت، تحـدث آثارها في دائرة القانون الداخلي وحدها، ولا تستطيع الدول الأخرى أن تتدخل فيها، أو أن تحكم على تصرفات عضو الدولة بمقتضاها، وإلا اعتبر عملها تدخلا في شئون هي من صميم السلطان الداخلي لكل دولة (11).

والتصرفات التي تصدر عن السلطات المختلفة في الدولة تنسبها قواعد القانون الدولي إلى الدولة مباشرة. فإذا كانت هذه التصرفات بوصفها تصرفات الدولة، مخالفة لالتزامات الدولة إزاء دولة أو دول أخرى تحملت الدولة تبعة المسئولية الدولية عنها، وذلك بغض النظر عما يقرره القانون الداخلي في شأن هذه التصرفات. وغني عن البيان أن التصرفات التي تصدر عن سلطات الدولة إما أن تكون صادرة عن السلطة التشريعية، وإما عن السلطة الإدارية، وإما عن السلطة القضائية. وسنتكلم عن كل منها تباعا فيما يلي:

تصرفات السلطة التشريعية

تعد القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية في الدولة أحكامًا قانونية نافذة ومُلزمة للمخاطبين بها في الدائرة الداخلية، وذلك متى صدرت في الحدود التي رسمها دستور الدولة. غير أن قواعد القانون الدولي تتلقى هذه القوانين، التي أصدرتها السلطة التشريعية في الدولة، على أنها تصرفات أو وقائع تعبر عن إرادة معينة للدولة، أو على أنها مظهر من مظاهر نشاطها. فإن هي وجـدتها مخالفة لالتزام دولي، أو مخلة به، اعتبرتها عملا غير مشروع صدر عن الدولة، ومن ثم يوجب تحمل تبعة المسئولية الدولية، وهذا أمر مسلم به، مجمع عليه. وقد قررت المحكمة الدائمة للعدل الدولي في حكمها السابع الذي صدر في ٢٥ من مايو سنة ١٩٢٦ ما يلي: “إن القوانين الداخلية تُعد، في نظر القانون الدولي وفى رأى المحكمة، بمثابة واقعة مادية، أو تعبير عن إرادة الدولة، أو مظهر من مظاهر نشاطها، شأنها في ذلك شأن الأحكام القضائية الداخلية، أو الإجراءات الإدارية الداخلية” (12).

وعلى ذلك يمكن القول بأن القانون الذي تصدره السلطة التشريعية للدولة، والذي تقضي أحكامه بحرمان الأجانب المقيمين في الدولة التمتع بحق من الحقوق التي التزمت الدولة في مواجهة دولة أو دول أخرى بمنحه للأجانب المقيمين فيها، أو بالمحافظة على تمتعهم به، يظل قائمًا، نافذ المفعول، منتجًا لآثاره في الدائرة الداخلية، غير أنه يُعد عملا غير مشروع في الدائرة الدولية، مستوجبًا للمسئولية الدولية، ومن ثم للتعويض وقد يكون هذا التعويض هو إلغاء هذا القانون.

وكذلك الأمر إذا صدر قانون داخلي بنزع ملكيات الأجانب من غير أن يعوضهم عن ممتلكاتهم التعويض الكافي، كما حدث في البرتغال عند نزع ممتلكات الهيئات الدينية الأجنبية من غير دفع التعويضات عنها (2)، وفى بولندا عندما صدرت قوانين تحرم الرعايا الألمان من مصالحهم في سيليزيا العليا البولندية (13).

وقد قرر القاضي “لیفي کارنيرو” في الرأي المخالف الذي ألحقه بالحكم التمهيدي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في قضية الزيت الإنجليزية الإيرانية في ٢٢ من يوليو سنة 1952 أن قوانين التأميم – وإن كانت في بعض الأحيان لا تثير عناية القانون الدولي – إلا أن القانون الدولي يعني بأمرها في نطاق المسئولية الدولية عن الأعمال التي تصدر عن السلطة التشريعية والتي تستوجب دفع التعويض العـادل عن رأس المال الأجنبي الذي تم تأميمه. وهذا التعويض يُعد ضرورة تحتميها قواعد القانون الدولي التي تنظم التعاون الدولي في الميدان الاقتصادي والميدان المالي.

نعم إن الدولة – ولها السيادة على إقليمها – تملك عن طريق سلطتها التشريعية أن تصدر ما ترى إصداره من القوانين الداخلية. غير أنه، من الناحية الدولية، لا تستطيع الدولة أن تحتج بتشريعها الداخلي للتحرر من التزاماتها الدولية. وإذا فرض أن أصدرت الدولة تشريعًا يخالف أحكام القانون الدولي فإنها تكون مسئولة قبل الدول التي ترى فيه إضرارًا بمصالحها أو بمصالح رعاياها. وفى ذلك تقول لجنة التحكيم المختلطة التي اتفقت على إقامتها الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية جواتيمالا للفصل في القضية المعروفة باسم Shufeld ما يلي: “لا خلاف في أنه يقع في اختصاص حكومة جواتيمالا أن تصدر أي قانون تراه ولأي الأسباب التي تدعو إليه في تقديرها. ومثل هذه الأسباب لا تختص هذه المحكمة ببحثها. ولكن يثبت اختصاص هذه المحكمة في حالة ما إذا كان مثل هذا القانون مخالفًا لأحكام القانون الدولي، وترتب عليه أن حاق ظلم بأحـد الرعايا الأجانب. فعلى الحكومة في مثل هذه الحالة أن تقدم تعويضًا عن الضرر، وليس لها أن تحتـج بأي قانون داخلي لتبرر رفضها لاتخاذ إجراء التعويض” (14).

ومسئولية الدولة ليست مقصورة على القوانين التي تصدرها سلطتها التشريعية مخالفة لأحكام القانون الدولي، بل تمتد أيضًا إلى أحكام دستورها التي تكون غالبًا من صنع جمعية تأسيسية وطنية.

وقد أقرت هذا المبدأ المحكمة الدائمة للعدل الدولي في رأيها الإفتائي الذي قدمته لعصبة الأمم في 4 من فبراير سنة 1932 لتسترشد به الأخيرة في الفصل في النزاع بين بولندا ومدينة دانزج الحرة، إذ جاء فيه ما يلي: “لا يحق لدولة أن تحتج بأحكام دستورها قبـل دولة أخرى بغية التخلص من الالتزامات التي يفرضها عليها القانون الدولي أو الاتفاقات التي هي طرف فيها.. ويترتب على ذلك أن مسألة معاملة الرعايا البولنديين، أو الأشخاص الذين من أصل بولندي، أو الذين يتحدثون البولندية، إنما يفصل فيها على أساس قواعد القانون الدولي وأحكام المعاهدات القائمة بين بولنـدا ودانزيج” (15).

ولا يُشترط لمسئولية الدولة عن أعمال سلطتها التشريعية أن يصدر ثمة قانون مخالف لأحكام القانون الدولي. فقد تترتب المسئولية الدولية أيضًا لتراخي الدولة في إصدار القوانين، إذا كان احترام الدولة لتعهداتها الدولية يستلزم إصدار أحكام تشريعية داخلية معينة. والمثـل التقليدي الذي يسوقه الشُرّاح في هذا الصدد هو قضية التحكيم الشهيرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى، والمعروفة باسم قضية ألاباما Alabama (16)، فقد قرر المحكمون فيها مسئولية بريطانيا عما وقع في موانيها من أعمال تُعد إخلالا بقواعد الحياد، ولم يقبل من بريطانيا الدفع الذي تقدمت به وهو عدم وجود تشريعات داخلية فيها تكفل لها القيام بتنفيذ التزامات الحياد، واعتبر تراخيها عن إصدار مثل هذه التشريعات مستوجبًا لتحمل المسئولية.

هذا وقد اعتبرت محكمة العدل الدولية أن حكومة ألبانيا تعد مسئولة دوليًا لامتناعها عن إعلان بثها للألغام في مضيق كورفو وامتناعها عن تحذير السفن الإنجليزية المارة بهذا المضيق بوجود هذه الألغام. وقد صدر هذا الحكم في قضية مضيق كورفو في 9 من أبريل سنة 1949 (17).

تصرفات السلطة التنفيذية

تُسأل الدولة عن التصرفات الإدارية التي تتخذها أو تمتنع عن اتخاذها السلطة التنفيذية في الدولة، وذلك متى كان اتخاذ هذه الإجراءات أو الامتناع عن اتخاذها أمرًا مخالفًا لالتزام دولي سبق للدولة أن تعهدت به لدولة أو لدول أخرى. وقد يكون الإجراء الإداري قد صدر مطابقًا لقوانين الدولة، وفي الحدود التي رسمتها هذه القوانين، وقد لا يكون كذلك. غير أن الأمر في الحالين يستوي في القانون الدولي، إذ لا تعني قواعد هذا القانون بمطابقة الإجراء الإداري لأحكام القانون الداخلي أو بعدم مطابقتها له. فصدور الإجراء الإداري أو عدم صدوره يُعد في حكم القانون الدولي عملا أو امتناعًا عن عمل، وهو صادر عن الدولة نفسها، أي منسوب إليها مباشرة. فإن كان هذا العمل أو هذا الامتناع مخالفًا لالتزام دولي، وجب على الدولة تحمل تبعة المسئولية الدولية عن المخالفة.

ولا يعني القانون الدولي بأمر السلطة التي اتخذت الإجراء الإداري أو امتنعت عن اتخاذه. فسواء صدر الإجراء عن رئيس الدولة، أو عن مجلس وزرائها، أو عن وزير من وزرائها (18)، أو عن أحد موظفيها، أو عن أفراد قواتها البوليسية أو العسكرية (٢)، أو عن السلطة التنفيذية المركزية أو المحلية، أو عن السلطة التي تعينها الدولة لحكم مستعمراتها، أو لحكم أحد الأقاليم التي لا تستمتع بالحكم الذاتي، أو لتشرف على إدارة إقليم موضوع تحت وصايتها. وسواء أيضـا كانت الدولة التي صـدر التصرف عن إحدى سلطاتها التنفيذية دولة بسيطة، أو من الدول المتحدة اتحـادًا حقيقيًا، أو دولة اتحادية Federal، ذلك لأن هـذه الأنواع من الدول تتمثل في شخصية دولية واحدة. أما في الدول المتحدة اتحادًا شخصيًا، أو في الدول التعاهدية Confederation، فإن كل دولة مشتركة في الاتحاد تستمتع بشخصيتها الدولية على الرغم من رابطة الاتحاد التي تربطها بغيرها، ومن ثم فهي تتحمل تبعة المسئولية الدولية عن الأعمال غير المشروعة التي تصدر عن إحدى سلطاتها.

والأمثلة عديدة على تصرفات السلطة التنفيذية التي ترتب قِبل الدولة مسئولية دولية، منها، امتناع حكومة دولة من الدول عن تسليم المجرمين إلى دولة أخرى إذا كان بين الدولتين معاهدة تقضي بذلك، أو قبضها على موظف دبلوماسي يتمتع بالحصانات الدبلوماسية أو غير ذلك.

وتصرفات موظفي الدولة قد تصدر عنهم بإذن أو تصريح من الحكومة، وهذا النوع من التصرفات لا خلاف بين الشرُّاح في اعتبار الدولة مسئولة عنه، إذا كان التصرف غير مشروع دوليًا، وذلك بصرف النظر عن مطابقته أو مخالفته لأحكام الدستور أو القوانين الداخلية. ولكن قد يرتكب الموظف فعلا ضارًا دون إذن أو تصريح من حكومته، وفى هذه الحالة تلزم التفرقة بين فرضين:

الفرض الأول: أن يقع الفعل من الموظف بصفته هذه، أي في أثناء، أو بمناسبة أدائه لوظيفته. وقد اختلف الشرُّاح في حكم هذا الفرض: فذهبت أقلية منهم الى أن الدولة لا تُسأل عن تصرفات موظفيها التي يتعدون بها اختصاصاتهم، ولو وقعت منهم في أثناء تأدية وظائفهم. ولكن غالبية الشُرّاح، وكذلك أحكام المحاكم الدولية، تقرر مسئولية الدولة عن تصرفات موظفيها ما دامت قد صدرت بمناسبة تأديتهم لوظائفهم، وذلك على أساس أن على الدولة أن تُحسن اختيار موظفيها، وعليها يقع عبء إساءة اختيارهم، كما تُسأل هي عن تقصيرهم. وقد حدث أن اتفقت الولايات المتحدة وبريطانيا على تعليمات خاصة بالصيد في بحر بهرنج B-hring Sea، ثم تظلمت بريطانيا من تصرف أحد ضباط البحرية الأمريكية الذي رأت فيه خروجًا على الأحكام المتفق عليها بين الدولتين أضر بمصالح رعاياها. وشُكلت لجنة دعاوى مختلطة في سنة ١٩٢١ للفصل في الأمر. وقد جاء في هذه اللجنة أن خطأ الضابط الأمريكي في فهم مدى القيود التي اتفقت عليها الولايات المتحدة وبريطانيا خاصـة بالصيد في بحر بهرنج لا يعفي الولايات المتحدة المسئولية بحال، ولو كان هذا الخطأ صادرًا عن حسن نية، إذ أن كل حكومة مسئولة قبل الحكومات الأخرى عن الأخطاء التي تقع من موظفيها في أثناء أو بمناسبة تأديتهم لوظائفهم وبمقتضى السلطة التي تخولها لهم وظائفهم (19).

الفرض الثاني: أن يقع الفعل من الموظف بصفته الشخصية البحت دون أن تكون له أية علاقة بوظيفته. مثل هذا الفعل يأخذ حكم تصرفات الأفراد العاديين، وتُسأل الدولة عنه في حدود مسئوليتها عن تصرفات الأفراد العاديين كما سنبينها فيما بعد.

والخلاصة إذن أن تصرفات موظفي الدولة إما أن تأذن بها الدولة فتأخذ حكم تصرفات حكومة الدولة نفسها، وإما أن تصدر في أثناء تأدية الوظيفة فتستوجب مسئولية الدولة عنها طبقًا للرأي الراجح فقهًا وقضاءً في القانون الدولي. وإما أن تصدر عن الموظف بصفته الشخصية فتأخذ حكم تصرفات الأفراد العاديين (20).

تصرفات السلطة القضائية

وتُسأل الدولة أيضًا عن الأعمال التي تعد – في حكم القانون الداخلي – صادرة عن السلطة القضائية في الدولة. فالحكم الذي يصدره القضاء يُعد حكمًا صحيحًا نافذًا في الدائرة الداخلية متى توافرت فيه الشروط التي يستوجبها النظام القانوني الداخلي. غير أن هذا الحكم يُعد، في الدائرة الدولية، عملا ماديًا منسوبًا إلى الدولة مباشرة. فإن كان هذا العمل مخالفًا لالتزام دولي، وجب على الدولة تحمل تبعة المسئولية الدولية عنه، إذ أن الدولة تعتبر في نظر الدول الأخرى وحدة تُسأل عن جميع ما يصدر عن مختلف سلطاتها من أعمال غير مشروعة دوليًا، بوصف هذه الأعمال مظهرًا من مظاهر نشاط الدولة.

والحكم الذي تصدره السلطة القضائيـة الداخلية يُعد مخالفًا لقواعد القانون الدولي متى أخطأ القضاء في تفسير أو تطبيق قاعدة قانونية داخلية هي بطبيعتها متفقة مع قواعد القانون الدولي أو الالتزامات الدولية التي أخذتها الدولة على عاتقها. ويُعد كذلك أيضًا إذا كان تفسيرًا سليمًا أو تطبيقًا صحيحًا لقاعدة قانونية داخلية هي بطبيعتها متعارضة مع قواعد القانون الدولي أو مع الالتزامات الدولية التي سبق للدولة أن تعهدت بها. ويكون الحكم عملا غير مشروع أيضًا إذا كان القضاء قد طبق قاعدة قانونية دولية، ولكنه أخطأ في تفسيرها أو في تطبيقها.

ولا يجوز – في هذه الأحوال – أن تدفع الدولة عنها المسئولية محتجة باستقلال السلطة القضائية ووجوب الامتناع عن التدخل في أعمالها، أو محتجة بقوة الشيء المحكوم فيه التي تستوجب الامتناع عن النقاش في صحة الحكم أو قيمته الذاتية. ذلك لأن استقلال السلطة القضائية وقوة الشيء المحكوم فيه أمران يعنيـان النظام القانوني الداخلي وحده، ولا شأن للقانون الدولي بهما. فاستقلال السلطة القضائية مبدأ ينطبق داخل الدولة لتحديد العلاقات التي تقوم بين مختلف سلطاتها، والقانون الدولي ينظر إلى الدولة بوصفها وحدة لا تتجزأ، ولا يعني بما في داخلها من سلطات متعددة، مهما يكن نوع التعاون أو الارتباط أو الاستقلال الذي يقوم بين بعضها بعضًا. أما قوة الشيء المحكوم فيه فيحتج بها أمام مختلف مراحل القضاء الداخلي، وليس لها أي أثر في النظام القانوني الدولي. فالحكم النهائي الذي يصدره القضاء في الجمهورية العربية المتحدة يحوز قوة الشيء المحكوم فيه أمام جميع السلطات في الجمهورية، غير أنه لا يحوز هذه القوة أمام جهات القضاء في الدول الأخرى، أو في دائرة القانون الدولي.

غير أنه إذا كان صحيحًا أن التكييف القانوني الداخلي لا يصلح أساسا لإسناد نشاط السلطة القضائية إلى الدولة، لأن الإسناد يتم في هذه الحالة وفقًا لضوابط القانون الدولي، إلا أنه يُستعان بهذا التكييف القانوني الداخلي لتحديد المدى الحقيقي للالتزامات الدولية التي تفرضها على الدولة قواعد القانون الدولي، وذلك لأن المنطق القانوني يقضي بألا تتعهد الدولة بالقيام بالتزامات تتعارض مع النظم الأساسية لنظامها الداخلي. فإذا قام الشك في مدى الالتزام الدولي، وجب تفسير هذا الالتزام بما يتفق مع هذا المبدأ المنطقي، أي على أساس التكييف القانوني الداخلي. فالدولة، مثلاً، تلتزم في مواجهة الدول الأخرى بإيجاد النظم القضائية الكافية لحماية المقيمين على إقليمها، وتلتزم أيضًا بمنح الأجانب حق الالتجاء إلى جهات القضاء، كما تلتزم بتقديم المتهم بالقيام بأعمال معينة إلى جهاتها القضائية لمحاكمته. وقد لفت النظر صراحة إلى هـذه الواجبات بعض القضـاة في محكمة العدل الدولية في قضية مضيق كورفو (21). وفي هذه الحالات يعتبر أن التزام الدولة قد تم الوفاء به متى قامت الدولة بإيجـاد هذه النـظم القضائية، ومنحت الأجانب حق الالتجاء إليها، وأحالت المتهم إلى الجهة القضائية المختصة. أما أن الدولة تضمن للدول الأخرى مثلا صدور أحكام القضاء على نحو معين (الحكم بالإدانة مثلا) فلا يتفق مع تفسير الالتزام الدولي تفسيرًا صحيحًا، إذ هو يتعارض مع النظم الأساسية التي تسود النظام الداخلي للدولة. كما أنه من المتفق عليه أيضًا أنه لا يمكن أن يلجأ الأجنبي لدولته كي تطالب دولة أخرى بالوسائل الدبلوماسية بالتعويض عن عمل غير مشروع صدر عنها في مواجهته إلا بعد أن يكون هذا الأجنبي قد لجأ إلى جهات القضاء في الدولة التي صدر عنها العمل غير المشروع، واستنفد الإجراءات العادية للوصول إلى حقه. فإذا كان الحكم الابتدائي قد صدر في غير صالحه وجب عليه استئنافه، وإن كان حكمًا استئنافيًا وجب عليه أن يرفع عنه نقضًا، حتى إذا تأيد الحكم نهائيًا، ولم يبـق للأجنبي سبيل للوصول إلى حقه باتباع طرق التقاضي العادية في الدولة، حق له حينذاك الالتجاء إلى دولته، وحق لدولته أن تطالب بالوسائل الدبلوماسية بتعويضه عن الضرر الذي لحق به.

وتُسأل الدولة أيضًا عن تصرفات سلطاتها القضائية إذا ما وقع منها ما اصطلح على تسميته “إنكار العدالة” (22) Deni de justice, denial of justice. وإنكار العدالة يكون إما بمنع الأجنبي من الالتجاء لجهات القضاء الوطنية، وإما بظلمه ظلمًا واضحًا بعد السماح له بالالتجاء إليها. وقد عُرّف إنكار العدالة تعريفات متعددة: فقيل أنه الظلم الظاهر، أو الخطأ الواضح في ممارسة العدالة، أو التدليس في الحكم، أو سوء النية في الحكم، أو الحكم القائم على التحكم أو الهوى. ويحسـن التفريق بين إنكار العدالة بين الحكم القضائي الذي ينطوي على خطأ في الوقائع، أو في التقدير، أو فيما يشابه ذلك. فالأول يستوجب المسئولية الدولية، والثاني لا يرتب المسئولية الدولية، وذلك وفقًا لما سبق ذكره، وفي غير الحالات التي بينا مسئولية الدولة فيها. وقد ذكرت المادة التاسعة من مشروع الاتفاقية التي أعدتها جامعة هارفارد في موضوع مسئولية الدول عن الأضرار التي تقع على إقليمها لأشخاص الأجانب أو لأموالهم أنه: “يوجد إنكار للعدالة إذا وقع من المحكمة تسويف لا مبرر له، أو حيل بين الأجنبي وبين الالتجاء للقضاء، أو وجد نقص كبير في إجراءات التقاضي، أو إذا لم تتوافر الضمانات التي لا غناء عنها لحسن سير العدالة، أو إذا صدر حكم ينطوي على ظلم واضح. أما الخطأ الذي تقع فيه المحكمة، والذي لا يستشف منه الظلم الواضح، فلا يُعد إنكارًا للعدالة” (23). هذا وقد أخذت المحكمة الدائمة للعدل الدولي بالتفرقة السابقة في الكثير من أحكامها وآرائها الاستفتائية، نخص بالذكر منها حكمها الصادر في سنة ١٩٢٧ في قضية اللوتس بين فرنسا وتركيا، وفتواها التي قدمتها لعصبة الأمم في سنة 1933 في مشكلة معاملة الرعايا البولنديين في دانزيج (24).

ولقد قرر القاضي “ريد”، في رأيه الشخصي الملحق بالحكم الصادر في المرحلة الثانية لقضية Nottebehm بتاريخ 6 من أبريـل سـنة 1955، ما يلي: “إنه من المعروف أن السيد نوتيبوم لم يسمح له بالعودة إلى جواتيمالا. وبهذا امتنع عليه أن يمارس الشئون المعقدة الخاصة بالدعوى. ولم يسمح له بالفرصة في إقامة الدليل ليدفع الاتهام الموجه له، أو ليواجه الخصوم في المحكمة. وفي مثل هذه الظروف أراني مضطرًا أن أقرر أن ليشتستاين تكون على حق إذا ما ادعت أنه قد حصـل إنكار للعدالة”.

وقد أخذت بهذه التفرقة أيضًا هيئة التحكيم التي اتفقت على إقامتها مصر والولايات المتحدة الأمريكية للفصل في طلب التعويض المقدم من الولايات المتحدة الأمريكية نيابة عن جورج سالم. وتتلخص وقائع النزاع في أن جورج سالم اتهم بالتزوير في عقـد بيع ادعى صـدوره إليه من عمه. فحققت معه النيابة الأهلية وقدمته لمحكمة الجنح في سنة 1918. فدفع بعدم اختصاص المحاكم الأهلية لتجنسه بالجنسية الأمريكية، وقد ثار خلاف بشأن جنسيته اقتضى تحقيقه بعض الوقت. وأخيرًا حكمت المحاكم الأهلية بعدم اختصاصها. غير أن جورج سالم رفع دعوى على الحكومة المصرية أمام المحاكم المختلطة مطالبًا بالتعويض، مؤسسًا دعواه على أن حجز النيابة والمحاكم الأهلية لعقد البيع المطعون فيه بالتزوير لحين التحقق من جنسية المتهم فوت على الأخير فرصة بيع أطيانه وقت ارتفاع الأسعار، مما ألحق به خسارة مالية فادحة. فحكمت المحاكم المختلطة بعـدم مسئولية الحكومة المصرية وبرفض دعوى التعويض. وحينذاك لجأ جورج سالم إلى دولته – الولايات المتحدة الأمريكية – مطالبًا إياها برفع دعوى دولية نيابة عنه على الحكومة المصرية للحصول على التعويض المناسب. واتفقت الدولتان على إحالة الأمر إلى التحكيم، فأصدرت هيئة التحكيم في سنة ١٩٢٣ حكمًا لصالح الحكومة المصرية نفت به المسئولية عن مصر إذ لم يثبت قبل هيئاتها القضائية إنكار للعدالة. وقد أكدت هيئة التحكيم بوضوح المبدأ الآتي: “من واجب هيئات التحكيم الدولية الاعتراف بصحة الأحكام التي تصدرها المحاكم الوطنية في حدود اختصاصها ما دام أنه لم يثبت قبلها إنكار للعدالة. والقانون الدولي لا يدخل في مدلول عبارة إنكار العدالة سوى الحالات التي يرتكب فيها ظلم قضائي واضح. وفي هذه الحالات وحدها يجوز للدول أن تقدم طلبات تعويض بالنيابة عن رعاياها الذين لحقهم الضرر، ومن أمثلة هذه الحالات: التسويف الذي لا مبرر له في الإجراءات، والتفرقة غير المشروعة أمام القضاء بين الوطنيين والأجانب، وكذلك الظلم الواضح الذي يمليه سوء النية” (25).

ومما هو جدير بالذكر أن غالبية دول أمريكا اللاتينية بذلت عدة محاولات لتضييق نطاق ما يعتبر إنكارا للعدالة، فذهبت إلى وجوب قصره على الحالات التي يمنع فيها الأجنبي من الالتجاء للمحاكم، أو التي تمتنع فيها المحاكم بالفعل عن إصدار حكم في الدعوى المرفوعة من أجنبي. وانتهت إلى أنه إذا صدر حكم من محكمة وطنية فإنه يمتنع البحث فيما إذا كان عادلا أو ظالمًا، وفيما إذا كانت الإجراءات التي اتبعتها المحكمة صحيحة أو معيبة، وتشبثت على وجه الخصوص بعدم جواز التظلم من أن الضمانات القضائية المقررة للمتقاضين في نظام دولة معينة غير كافية، ما دامت مقررة للوطنيين والأجانب على قدم المساواة.

غير أن غالبية الدول لا تقر وجهة نظـر دول أمريكا اللاتينية، وترى وجوب أن يكون لإنكار العدالة ضابط موضوعي تطلق عليه لفظ “المستوى الدولي” International Standard، ومؤداه أن تلتزم كل دولة – بوصفها من أشخاص القانون الدولي – بضمان حسن سير العدالة فيها، وبإقامة نظام قضائي يكفل للأجانب حدًا أدنى من الضمانات، ولو لم يكن الوطنيون مستمتعين بالفعل بهذه الضمانات. ومن ثم فلا يشترط فقط أن تقفل الدولة أبواب محاكمها بالفعل في وجه الأجانب المقيمين أو المـارين بإقليمها، لكي ينسب إليها إنكار العدالة، إذ هناك وسائل شتى تحيد بها الدولة عن المستوى المتطلب. ومثل هذه الفروض لا يمكن ذكرها على سبيل الحصر، وإنمـا يذكر منها الشرّاح والمحاكم على سبيل المثال: الرشوة، والمماطلة، ومصادرة حق المتهم في الدفاع، وتدخل السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية، وتأثر الأحكام الصادرة من المحاكم بالاعتبارات السياسية.

ومن المتفق عليه أيضًا أن إنكار العدالة يشمل الأفعال التي وإن كانت لم تصدر من السلطة القضائية نفسها، إلا أنها وثيقة الارتباط بنظام القضاء وسير العدالة، كإعدام الأشخاص بدون محاكمة، أو التقصير الذي لا مبرر له في محاكمة المسئولين عن جريمة ما، وكذلك الحبس الاحتياطي التعسفي والطويل الأجل، والتراخي في تنفيذ الحكم بعد صدوره (26).

ثانيًا: التصرفات التي تصدر عن الأفراد العاديين

سبق أن ذكرنا أن الدولة تُسأل عن أعمال موظفيها التي تصدر عنهم في أثناء تأديتهم لوظائفهم، وأن الأعمال التي تصدر عنهم بصفتهم الشخصية دون أن تكون لها أية علاقة بوظائفهم لا تُسأل عنها الدولة إلا في حدود مسئوليتها عن أفعال الأفراد العاديين.

والأصـل أن الدولة لا تُسأل عن أفعال الأفراد العاديين التي تنطوي على اعتداء على الدول الأخرى أو على الرعايا الأجانب، ما دام أنه لم يثبت قبل الدولة أي خطأ أو تقصير. ولقد استقر هذا المبدأ بعد تطور تاريخي، حلت فيه هذه النظرية الحديثة – التي تتخذ من الخطأ أو التقصير Faute أساسًا لمسئولية الدولة عن أفعال أفرادها – محل النظرية الجرمانية القديمة التي كانت تعتبر الجماعة مسئولة عن عمل الفرد، ولو لم يقع منها خطأ، أو تقصير، وذلك أخذًا بمبدأ تضامن الجماعة Solidarité du groupe مع أفرادها (27).

ولقد سادت النظرية الجرمانية خلال العصور الوسطى، فكانت الجماعة تُسأل عن كل فعل يقع من أحد أفرادها، بحيث يكون سائر أفراد الجماعة مسئولين عنه على سبيل التضامن في أشخاصهم وأموالهم. غير أنه كان من المتيسر للجماعة أن تحل نفسها من المسئولية إذا هي تخلت عن الفرد المرتكب للفعل ولم تعد تشمله بحمايتها، وفي هـذه الحالة يصير هـذا الفرد عرضة للانتقام من الجماعات الأخرى التي تستحل دمه وماله.

غير أن هذا الوضع تغير بظهور الدولة في شكلها الحديث في القرن السادس عشر، فقام كتاب القانون الدولي الأولون يعارضون مبدأ تضامن الجماعة، ويهدون السبيل لأساس آخر لمسئولية الدول. وأخذ “جروسیوس” (28) ومن جاء بعده من الفقهاء ينشدون العون من أحكام القانون الروماني الخاصة بالمسئولية، ونقلوه من نطاق القانون الخاص إلى نطاق العلاقات بين الدول، وجعلوه أساسًا لمسئولية الدولة عن أفعال الأفراد العاديين. وقد جاء العرف الدولي بعد ذلك مؤيدًا لنظرية الخطأ، وتناولها الفقه والقضاء الدوليان بالتوضيح، فاستقرت أحكامها ضمن الأحكام الوضعية للقانون الدولي.

ويُلاحظ أنه يجب التفريق بين الخطأ كأساس للمسئولية الدولية ونظرية المخاطرة التي تصلح أساسًا للمسئولية في بعض التشريعات الداخلية. فالخطأ شرط أساسي لوجود المسئولية الدولية. أما المخاطرة فلا تستوجب المسئولية الدولية. وقد أظهر هذا الفارق بوضوح القاضي “عبد الحميد بدوي” في الحكم المخالف الذي ألحقه بالحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في موضوع قضية مضيق كورفو في 9 من أبريل سنة 1949 إذ قرر: “أن القانون الدولي لا يعرف المسئولية الموضوعية التي تقوم على فكرة المخاطرة التي اعتمدتها بعض التشريعات الداخلية. وفي الواقع لا يسمح تطور القانون الدولي ودرجة النمو في التعاون الدولي بتقدير أن هذه المرحلة قد خطاها القانون الدولي أو أنه على وشك تخطيها”. وقد أيد هذا التفريق أيضًا القاضي الروسي “كريلوف” في الحكم المخالف الذي ألحق بحكم محكمة العدل في القضية ذاتها، ومما قاله في هذا الخصوص ما يلي: “إن مسئولية الدولة المترتبة على العمل غير المشروع تفترض على الأقل وجود خطأ وقعت فيه الدولة … ولا يمكن أن تنقل إلى ميدان القانون الدولي نظرية المخاطرة التي أقرتها بعض التشريعات المدنية في دول كثيرة. فلكي تؤسس مسئولية الدولة يجب الرجوع الى فكرة الخطأ” (29).

الحيطة اللازمة Due Diligence

وتلتزم الدولة وفقًا لهذه النظرية باتخاذ الحيطة اللازمة لكي تحول بين رعاياها وبين الدول الأخرى أو الرعايا الأجانب. وهي مكلفة بحماية الأجانب المقيمين على إقليمها، وباتخاذ الإجراءات والتدابير لكي تكفل عدم الاعتداء عليهم. ومن واجبها إذا ما وقع اعتداء على أجنبي مقيم على إقليمها أن تبادر إلى معاقبة الفاعل، وتعويض المجني عليه. ولا مسئولية على الدولة إذا هي لم تقصر في أدائها لواجب اتخاذ الحيطة الكافية لمنع أفرادها من ارتكاب الأفعال غير المشروعة.

وقد نصت المادة العاشرة من مشروع الاتفاقية الخاصة بمسئولية الدول الذي وضعته جامعة هارفارد الأمريكية على ما يأتي: “تُسأل الدولة إذا كان الضرر الذي أصاب الأجنبي في إقليمها ناتجًا عن أنها لم تتخذ الحيطة اللازمة due diligence لمنع وقوع الفعل …”. وقد أقرت اللجنة الثالثة في مؤتمر لاهاي لتقنين القانون الدولي هـذا المبدأ نفسه، وضمنته المادة العاشرة من المشروع الذي قدمته للمؤتمر، والتي تنص على أنه فيما يتعلق بالأضرار التي تصيب الأجانب وأملاكهم من أفراد عادين، لا تكون الدولة مسئولة إلا إذا ثبت أن الضرر الذي أصاب الأجانب قد تسبب عن عدم اتخاذ الدولة للتدابير التي كانت الظروف تقتضيها لمنع الفعـل الضار، أو التعويض عنه، أو المعاقبة عليه.

أفعـال العنف Mob – Violence

يحدث كثيرًا في الدول المختلفة أن تقع اعتداءات على الأجانب، أو على رعايا دولة معينة في أثناء قيام مظاهرات سياسية، إذا لازمتها أو أعقبتها أعمال العنف والاعتداء، أو أفعال النهب والسلب، فهل تُسأل الدولة عن هذه الأفعال؟

من الناحية النظرية لا يختلف أساس مسئولية الدولة عن هذه الأفعال عن الأساس الذي سبق ذكره بخصوص مسئوليتها عن أفعال الأفراد العاديين. وأحكام المحاكم الوطنية والدولية وكذلك أحكام هيئات التحكيم الدولية، مستقرة مطردة في اشتراطها وقوع التقصير من جانب سلطات الدولة، وذلك للحكم بالمسئولية الدولية عن أعمال العنف التي تقع في المظاهرات السياسية وتلحق الضرر بالرعايا الأجانب. ومن الأحكام الشهيرة في هذا الصدد:

  1. الحكم الذي أصدرته في سنة ١٩٢٠ لجنة التحكيم المختلطة التي اتفقت على تشكيلها بريطانيا والولايات المتحدة للفصل في القضية المعروفة باسم Home missionary society casi وتتلخص وقائع هذه القضية في أن جمعية أمريكية دينية كانت تباشر نشاطها التبشيري في إحدى المحميات البريطانية في أفريقيا Sierra Leone وقع عليها اعتداء في أثناء قيام إحدى المظاهرات الوطنية. فطلبت الحكومة الأمريكية تعويض رعاياها عن الأضرار التي أصابتهم على أيدي المتظاهرين، فرفضت لجنة التحكيم ذلك على أساس عدم قيام الدليل على تقصير الحكومة البريطانية في تقديم الحماية الكافية للأجانب في المحمية. وقد ذكرت لجنة التحكيم في قرارها أن “من المبادئ المستقرة في القانون الدولي أن الحكومات لا تُسأل عن أفعال المتظاهرين، ما لم يثبت قبلها أي إخلال بواجباتها، أو تقصير في قمع الفتنة” (30).
  2. التقرير الذي وضعته لجنة المتشرعين التي كلفها مجلس عصبة الأمم في سنة 1923 ببحث النزاع بين اليونان وإيطاليا الذي أحيل على عصبة الأمم لتسويته، فقـد حدث أن قتل المتظاهرون اليونانيون الجنرال Tellini الإيطالي الجنسية والعضو في اللجنة التي كلفت بتعيين الحدود بين اليونان وألبانيا. فأرسلت الحكومة الإيطالية إنذارًا إلى الحكومة اليونانية اعتبرتها فيه مسئولة عن الحادث، واحتلت الحكومة الإيطالية بقواتهـا العسكرية جزيرة كورفو اليونانية. وقد جاء في تقرير لجنة المتشرعين السالفة الذكر: “أن مسئولية الدولة لا تثبت لمجرد ارتكاب جريمة ضد أشخاص الأجانب في إقليمها، وإنما يلزم أن تكون الدولة قد أهملت في اتخاذ التدابير المعقولة لمنع وقوع الجريمة، أو لتتبع الجناة، والقبض عليهم ومحاكمتهم. ولا شك أن الصفة الرسمية لأحد الرعايا الأجانب والظروف التي قد تحيط بوجوده على إقليم الدولة، تفرض على الدولة المزيد من الحيطة والحذر” (31).
  3. ويتبين من مراجعة أحكام المحاكم المصرية أن القضـاء في مصر لا يعتبر الحكومة مسئولة لمجرد وقوع المظاهرات أو أعمال العنف التي قد يترتب عليها الإضرار بالرعايا الأجانب، وإنما يشترط لذلك ثبوت التقصير من جانب الحكومة. وهذا هو المبدأ الذي اتبعته المحاكم المصرية، وطنية ومختلطة، في أحكامها التي أصدرتها في دعاوى التعويض التي رفعت إليها عقب حوادث المظاهرات والاعتداءات التي وقعت في سنة 1946 للاحتجاج على بقاء القوات البريطانية في مصر، ونخص منها بالذكر هنا حكم محكمة الاستئناف المختلطة بالإسكندرية الصادر في 10 من مارس سنة 1949 في قضية “تريانون” الذي قضى بإلغاء الحكم الابتدائي الصادر في 19 من يونيو برفض التعويض عن الأضرار التي لحقت المحل المذكور. فقد ذكرت محكمة الاستئناف أن وقائع الدعوى يثبت منها وقوع تقصير من جانب سلطان البوليس يستوجب مسئولية الحكومة المصرية. وقد جاء في هذا الحكم ما يلي: “تبين للمحكمة أن السلطات التي كلفتها الحكومة بحفظ النظـام لم تؤد واجبها على النحو المرضي، وأن قوات البوليس قصرت في استخدام الوسائل التي كانت تحت تصرفها لمنع الاعتداء. وتخص المحكمة بالذكر امتناع قوات البوليس عن طلب المساعدة من القوات الحربية في وقت ظهر فيه بجلاء ضرورة تدخل الأخيرة. وبناء عليه يتبين للمحكمة من واقع الدعوى وقوع تقصير جسيم من جانب سلطات البوليس تسأل عنه الدولة” (32).

أفعال الثوار: Revolutionists and Insurgents

لا تختلف أفعال الثوار عن أفعال الأفراد العاديين وأفعال المتظاهرين من حيث المبدأ الذي يحكمها لتحديد مسئولية الدولة عنها. فمن الأمور المتفق عليها فقهًا وقضاءً أن الدولة لا تُسأل عن أفعال الثوار ما لم يثبت قبلها تقصير في اتخاذ الحيطة اللازمة لمنع الثورة أو لقمعها. أما إذا قامت الثورة، ووقعت خلالها أعمال تضر بمصالح الدول الأخرى أو بمصالح رعاياها، فلا مسئولية على الدولة إن كانت قد اتخذت كافة التدابير اللازمة لمنع وقوع الضرر. ويسوغ الفقه إعفاء الدول من تحمل تبعة المسئولية الدولية في مثل هـذه الحالات على أساس “القوة القاهرة” Force Majeure ذلك أن وضع الثورة الأهلية يُعد في واقع الأمر بمثابة قوة قاهرة تنتفي بوجودها مسئولية الدولة، بالنظر إلى أن الدولة نفسها تعاني من الانقلاب الثوري (33).

وقد حاولت بعض دول أمريكا اللاتينية تقرير الإعفاء المطلق من تحمل تبعة المسئولية الدولية عن أعمال الثوار، سواء أثبت التقصير قبل الدولة أم لم يثبت. ولا شك أن الذي حدا بدول أمريكا الجنوبية إلى محاولة تقرير مثل هذا المبدأ هو تعدد قيام الانقلابات العسكرية والثورات الأهلية في ذلك الجزء من المعمورة. غير أن الدول الأوربية عارضت هذه المحاولة، وأيدها في ذلك الفقه والقضاء الدوليان. وأحكام هيئات التحكيم الدولية – التي أحيلت عليها دعاوى التعويض التي طالبت فيها بعض الدول بتعويض رعاياها عما لحقهم من أضرار على أيدي الثوار – مستقرة على اشتراط عدم وقوع التقصير، وذلك لإعفاء الدولة من تحمل تبعة المسئولية الدولية عن الأعمال غير المشروعة التي تصدر عن الثوار (34).

هذا هو المبدأ العام الذي يحكم مسئولية الدولة عن أعمـال الثوار. وظاهر أن هذه الأعمال لا تختلف من حيث المبدأ الذي ينتظمها عن الأعمال غير المشروعة التي تصدر عن الأفراد العاديين أو التي تصدر عن المتظاهرين. غير أنه يُلاحظ أن الأعمال غير المشروعة التي تصدر عن الثوار تنتظمهـا أحكام خاصة في حالتين:

الحالة الأولى: حالة الاعتراف للثوار بوصف المحاربين، فقد سبق أن ذكرنا – عنـد الكلام على الاعتراف – أنه يترتب على الاعتراف بالثوار يوصف المحاربين اكتسابهم للحقوق التي يقررها القانون الدولي للمحاربين، وتحملهم للالتزامات التي يفرضها عليهم. ونضيف إلى ذلك أن اعتراف الدولة لرجال الثورة فيها بوصف المحاربين يعفي الدولة من تحمل تبعة المسئولية الدولية عن أعمال الثوار في مواجهة الدول الأخرى. أما إذا لم تعترف دولة الأصل بوصف المحاربين للثوار الخارجين على سلطتها، فإنها تظل مسئولة عن الأعمال غير المشروعة التي تصدر عنهم.

ولا يرد على هذا المبدأ سوى قيـد واحد: هو أنه يمتنع على الدول الأجنبية التي تعترف للثوار بوصف المحاربين الرجوع على دولة الأصـل بدعوى المسئولية الدولية (35).

الحالة الثانية: حالة نجاح الثورة. فإذا حققت الثورة أغراضها وترتب عليها حلول حكومة الثوار محل الحكومة الشرعية، تكون الدولة مسئولة عن أعمال الثوار منذ قيام الثورة. ويفسر بعض الشُرّاح ذلك بأنه ما دام أن حكومة الثوار قد صارت الحكومة الفعلية للدولة، وذلك بفضـل نجاح الثورة، فإن أعمال الثوار تنسب – بأثر رجعي – إلى سلطات الدولة. فإن كانت أعمالا غير مشروعة، وجب على الدولة أن تتحمل تبعـة المسئولية الدولية عنها، بوصفها أعمالا صادرة عن سلطاتها (36).

موانع المسئولية الدولية

سبق أن ذكرنا أن الدولة التي تخالف التزامًا دوليًا رتبته لها إحدى قواعد القانون الدولي تتحمل تبعة المسئولية الدولية عن هذا العمل غير المشروع، كما سبق أن ذكرنا أن ارتباط المسئولية الدولية بالعمل غير المشروع ارتباط تحتمه الضرورات القانونية الأساسية، وأنه صار من المبادئ المسلم بها والمجمع عليها.

وظاهر أن العمل الذي يرتب تبعة المسئولية الدولية يجب أن يكون عملا غير مشروع، إذ أن المسئولية الدولية لا يمكن أن تنشأ من جراء عمل مشروع قانونًا. وقد يكون العمل في الأصل عملا غير مشروع، إلا أن ظروفًا وملابسات قد تحيط به فتحول طبيعته القانونية وتصبغه بصبغة العمل المقبول قانونًا، وبذلك يمتنع الارتباط بينه وبين المسئولية الدولية، فلا تترتب عليه ثمـة مسئولية قبل الدولة التي قامت بهـذا العمل. وهـذه الظروف والملابسات التي تحول العمل غير المشروع في الأصل إلى عمل مقبول فتمنع نشوء المسئولية الدولية هي التالية:

أولاً: الرضا

من المعلوم أن الرضا له أثر محدود في تحويل طبيعة العمل القانوني وإلصاق وصف العمل المقبول على العمل القانوني غير المشروع في الأصل. غير أن الأمر في نطاق القانون الدولي يختلف عنه في دائرة القانون الداخلي. فالمخالفة القانونية الدولية تزول دائما وحتما إذا رضي عنها من وقعت المخالفة الدولية في مواجهته. ذلك أن أحكام القانون الدولي تقوم كلها – كما سبق القول  – على رضا أشخاص القانون الدولي. فإذا وقعت من أحدهم مخالفة لإحدى قواعد هذا القانون في مواجهة شخص قانوني دولي آخر، ورضى هذا الأخير بوقوعها، فإن رضاه يُعد بمثابة إقرار بقبولها، ويتحول العمل من عمل قانوني غير مشروع في الأصـل إلى عمل قانوني مقبول لا يرتب تحمل تبعـة المسئولية الدولية. فاحتلال إقليم تابع لإحدى الدول أمر محظور، وهو عمل غير مشروع في الأصل، غير أنه إذا صاحبه رضا الدولة التابع لها الإقليم فإن هـذا الاحتلال يتحول إلى عمل قانوني مشروع، ولا يرتب مسئولية في ذمة الدولة التي قامت به.

وفي مثل هـذه الحالات يُشترط في الرضـا أن يكون سابقًا على العمل غير المشروع أو أن يكون مصاحبًا له، وذلك لأن الرضـا اللاحق لا يحول العمل غير المشروع إلى عمل مشروع وبالتالي لا يمنع نشوء المخالفة الدولية، وينحصر أثر الرضا في هذه الحالة في القضاء على المسئولية الدولية لتنازل الدولة التي صدر عنها هذا الرضا عن مطالبة الدولة التي صدرت عنها المخالفة بالتعويض.

ويُلاحظ أن الرضا يجب أن يصدر عن إرادة صحيحة غير معيبة. ويرجع في شروط الرضا في هذه الحالة إلى كل ما سبق أن ذكرناه عن شروط الرضا في المعاهدات. فالرضا يُعد سليمًا حتى لو وقع تحت إكراه القوة المسلحة. كما يُلاحظ أنه يجب أن يكون الرضا صريحًا وألا يخلط بمجرد السلبية. والرضا يُعـد من موانع نشوء المسئولية الدولية بالنسبة للدولة التي يصدر عنها هذا الرضا ولا أثر له البتة بالنسبة إلى الدول الأخرى التي وقعت المخالفة الدولية في مواجهتها والتي لم ترض عن وقوعها.

ومن الأمثلة على المخالفات الدولية التي حال الرضـا دون نشوئها: احتلال القوات المسلحة التابعة لألمانيا لأراضي النمسا سنة 1938 فقد صاحب هذا الاحتلال رضا النمسا به، وكذلك احتـلال القوات البريطانية لإقليم الأردن في 16 من يوليو سنة 1958 عقب ثورة العراق، فقد سبقه رضا الأردن.

ثانيًا: الدفاع عن النفس

من الأمور المسلم بها أن لكل دولة الحق الكامل في أن تقابل أي هجوم على إقليمها أو على رعاياها أو على سفنها بالقوة المسلحة عند الاقتضاء، وهي لا تتحمل في هذه الحالة تبعة أية مسئولية دولية عن أعمالهـا في الدفاع عن نفسها بشرط أن يكون الاعتداء الواقع على إقليمها أو رعاياها أو سفنها أو طائراتهـا عملا غير مشروع في الأصل. ويشترط في هذه الحالة أيضًا ألا تتجاوز أعمال الدفاع عن النفس حدودها. وظاهر أن التجاوز، أو عدم التجاوز، عن هذه الحدود أمر دقيق غاية الدقة، ويُترك التقدير فيه لكل حالة على حدة.

ومن الأمثلة على حالات الدفاع عن النفس الاعتداء الثلاثي الإسرائيلي الفرنسي البريطاني الذي وقع على إقليم الجمهورية المصرية ابتداء من ٢٩ أكتوبر سنة 1956. فقد قاومت مصر هذا الاعتداء غير المشروع بقواتها المسلحة، كما اشتركت في مقاومته جميع طبقـات الشعب، وأغرقت بعض السفن في قناة السويس وامتنعت الملاحة فيها. ولم تتحمل مصر أية مسئولية دولية عن أي عمل قامت به إبان دفاعها عن نفسها، كما تم تطهير قناة السويس وإعادة فتحها للملاحة العالمية على نفقات الأمم المتحدة.

ثالثًا: العلاج الجوابي بوسائل العنف Reprisals

من الأمور التي لا يزال مسلمًا بها في نطاق القانون الدولي، أنه يحق للدولة أن تقابل العنف بمثله، وأنه يحق لها كذلك أن تقابل المخالفة الدولية التي وقعت في مواجهتها بمخالفة دولية في مواجهة الدولة الأولى المخالفة، وذلك كله بقصد إلزامها بأداء التعويض أو منعها من الإقدام على مخالفات دولية أخرى. ومثل هذا العمل يُعد علاجًا جوابيًا على عمل آخر، وكثيرًا ما ينطوي على العنف، ويجب دائمًا أن يكون مؤسسًا على نية الدفاع عن حقوق الدولة. ولذلك فإنه يشترط فيه: أولا: أن يكون عملاً جوابيًا على عمل آخر هو مخالفة دولية ترتب المسئولية الدولية، ثانيًا: أن يكون ظاهرًا أن الدولة التي وقعت منهـا المخالفة لا تنوي النهوض بتبعـة المسئولية الدولية اختيارًا. وتطبيقًا لذلك يشترط ثالثًا: أن تلجأ الدولة إلى مطالبة الدولة المخالفة برفع الضرر الذي تخلف عن عملها غير المشروع أو أن تقوم بالتعويض عنه تعويضًا كافيًا، وأن يثبت أن هذه المطالبة ظلت سـدى. وأخيرًا يشترط أن يكون العمل الجوابي القائم على العنف في حدود حماية الحق القانوني الذي انتهكته المخالفة الدولية.

وهذه الشروط الأربعة التي كانت تمليها روح العدالة قد تأكدت الآن في دائرة القانون الدولي الوضعي بعد أن تم التعبير الصريح عنها في الحكم الذي أصدرته محكمة التحكيم في سنة 1938 في الخلاف بين البرتغال وألمانيا في حادث Naulilan. وخلاصة هذا الحادث أنه وقع في إحدى محطات البرتغال في جنوبي غرب أفريقيا شغب أدى إلى وفاة ثلاثة من الألمان وذلك في سنة 1915 عندما كانت البرتغال في حالة حياد في الحرب العالمية الأولى. فجاوب الألمان على هذا الحادث جوابًا سريعًا بإرسالهم قوة عسكرية ضاربة اعتدت على محطات كثيرة في المستعمرة البرتغالية، وطردت حامية Naulilan، فلما عرض الأمر على هيئة التحكيم قضت هذه بمسئولية ألمانيا، لأنها لم تستوف الشروط السابقة، إذ ثبت أنها لم تطالب البرتغال برفع الضرر، كما أن العمل الجوابي كان متجاوزًا لحدود الحماية الطبيعية عن الحق القانوني.

والعلاج الجوابي الذي ينطوي على العنف كثير الأنواع. والعنف فيه قد يصل إلى حدود العمل الحربي، وقد يكون من الدقة الفصل بينه وبين الحرب. وكثيرًا ما يخرج عن نطاق القانون إلى نطاق السياسة، إذ هو قائم على السلطة الانفرادية التحكمية لا على فكرة تطبيق الجزاء القانوني. وهو لا شك سلاح في أيدي الدول القوية تستعمله في مواجهة الدول التي تجتاز مراحل الضعف السياسي أو العسكري. إلا أن قيام الأمم المتحدة، وما انطوت عليه من مجالس وهيئات وظائفها حسم المنازعات الدولية بالوسائل السلمية سواء أكانت سياسية أم قضائية، قد أدى إلى تخفيف حالات الأعمال الجوابية العنيفة والتقليل منها في المدة الأخيرة.

أحكام الدعاوى الدولية

ذكرنا فيما سبق أن الغالبية العظمى من حالات المسئولية الدولية إنما تنشـا عمـا يلحق الرعايا الأجانب على إقليم دولة أخرى من الأضرار، كما ذكرنا أن المسئولية الدولية علاقة قانونية تقوم بين أشخاص القانون الدولي، وأنه إذا تظلم أحد الرعايا الأجانب المقيمين على إقليم دولة أخرى من أضرار لحقت شخصه أو ماله، فإن الدولة التي ينتسب إليها هي التي تقاضي الدولة التي صدر عنها العمل غير المشروع (37).

على أنه يجب ألا يغرب عن البـال أن الدولة حينما ترفع دعوى المسئولية الدولية للمطالبة بتعويض أحد رعاياها عما لحقه من ضرر من جراء عمل غير مشروع، إنما تفعل ذلك بصفتين: (الصفة الأولى ) نيابتها عن الفرد الذي ينتسب إليها والذي تطالب له بالتعويض، ولذلك يشترط الفقه والقضاء الدوليان أن يكون المطالب له بالتعويض من رعايا الدولة التي ترفع دعوى المسئولية الدولية نيابة عنه. (الصفة الثانية) هي أن كل دولة تلتزم بحماية رعاياها وتحرص على منع الدول الأخرى من الاعتداء على حقوقهم أو الإضرار بهم. ويتفرع على ذلك أن الفرد لا يستطيع أن يتنازل مقدمًا عن حق دولته في حمايته، وأنه يقع باطلا كل تعهد يصدر عن أحد رعاياها المقيمين في الخارج ويكون موضوعه امتناع تدخل الدولة التي ينتسب إليها لرفع دعوى المسئولية الدولية نيابة عنه على الدولة التي يصـدر عنها عمل غير مشروع يضر بحقوقه أو بمصالحه.

وتطبيقًا لذلك قضت المحكمة الدائمة للعدل الدولي في حكمها الصادر في سنة ١٩٢٤ في النزاع بين بريطانيا واليونان – في شأن قضية عقود الامتياز الممنوحة في فلسطين للمسيو مافروماتيس Mavrommatis Palestine Concessions – بما يأتي: “من المبادئ الرئيسية في القانون الدولي أن كل دولة لها الحق في حماية رعاياها إذا لحقتهم أضرار نتيجة لما يصدر عن الدول الأخرى من أعمال تخالف أحكام القانون الدولي، وذلك إذا لم يستطيعوا الحصول على الترضية المناسبة عن طريق الوسائل القضائية الداخلية. والدولة إذ تتبنى قضية أحد رعاياها، وتلجأ في شأنها إلى الطريق الدبلوماسي أو إلى الوسائل القضائية الدولية، فإنها – في واقع الأمر – إنما تؤكد حقها هي، أي حق الدولة في أن تكفل – في أشخاص رعاياها – الاحترام اللازم لقواعد القانون الدولي… وإذا حدث أن تقدمت إحدى الدول، نيابة عن أحد رعاياها، بقضية ما إلى محكمة دولية، فإن هذه الدولة وحدها هي التي تعتبر في نظر المحكمة التي ترفع إليها الدعوى الجهة المطالبة بالتعويض”.

وقد ذكر القاضي “هاكوورث” الرئيس السابق لمحكمة العدل الدولية في الرأي المخالف الذي ألحقه بالرأي الإفتائي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 11 من أبريل سنة 1949 ما يلي: “أن الطلب الذي تتقدم به إحدى الدول في مواجهة الدولة الأخرى، على أساس الضرر الذي لحق أحد رعايا الدولة المطالبة، يقوم على نظرية أن الدولة ذاتها قد أصابها الضرر جراء الضرر الذي لحق رعاياها، وسليمة أيضـا تلك النظرية التي تقرر أن يقابل خضوع المواطنين للدولة التزام الدولة بحماية المواطنين” (38).

وقرر القاضي “عبد الحميد بدوي” في رأيه المخالف الذي أدلى به في المناسبة ذاتها: “أن القانون الدولي يعترف للدولة بحق المطالبة بتعويض الضرر إذا ما أصابها ذلك الضرر أو أصاب المجني عليه عن طريقها عندما يكون مواطنًا في الدولة المطالبة ولم يتسن له الحصول على التعويض بالوسائل العادية .. والقانون الدولي يقرر أن للدولة الحق في أن تطالب بتعويض الضرر في هذه الحالة الأخيرة، لا لأن الدولة هي النائب عن المجني عليه قانونًا، بل لأن الدولة تؤكد بهذه الوسيلة حقها هي، ذلك الحق الذي تلتزم بالمحافظة عليه في أشخاص مواطنيها” (39).

ولكي يثبت الحق لدولة ما في رفع دعوى المسئولية الدولية نيابة عن أحد رعاياها على دولة أخرى يجب أن يتوافر شرطان: الشرط الأول: أن يكون الشخص المطالب له بالتعويض مستمتعًا بجنسية الدولة التي ترفع دعوى المسئولية الدولية نيابة عنه، وذلك من وقت وقوع العمل الضار إلى حين الفصل في دعوى التعويض.

الشرط الثاني: أن يكون الشخص المطالب له بالتعويض قد استنفد وسائل التقاضي التي تسمح له بها قوانين الدولة المدعى عليها والتي صـدر عنها العمل غير المشروع.

وستجمل الكلام عن هذين الشرطين:

الشرط الأول: وجوب أن يكون المطالب له بالتعويض من رعايا الدولة المدعية

رأينا أن أساس مطالبة الدولة بتعويض رعاياها عما يصيبهم من أضرار نتيجة لمخالفة إحدى الدول لأحكام القانون الدولي هو الحق الثابت للدولة في حماية رعاياها. فرابطة الجنسية بين الفرد ودولتـه شرط لابد من تحققه كي يثبت للدولة الصفة في رفع دعوى المسئولية الدولية نيابة عن الفرد المطالب بالتعويض.

وقد ناقشت اللجنة التحضيرية لمؤتمر التقنين المنعقد في لاهاي في سنة 1930 هـذا الموضوع، وأكدت المبدأ السالف الذكر في التقرير الذي قدمته إلى المؤتمر في عبارة واضحة جاء فيها: “لا يجوز للدولة أن تطالب بتعويض مالي عن الضرر الذي يصيب أحد رعاياها في إقليم دولة أجنبية إلا إذا كان الشخص الذي أصابه الضرر من رعاياها في وقت وقوع الفعل الضار، واحتفظ بجنسيتها إلى حين الفصل في طلب التعويض”. وما هو جدير بالذكر أن اللجنة السالفة الذكر وصفت المبدأ المتقدم بأنه يجد سنده في القضاء الدولي، وكذلك في الإجابات التي أرسلتها الدول ردًا على الأسئلة التي وجهتها عصبة الأمم إليها لتستطلعها الرأي في هذا الصدد.

وبمراجعة أحكام المحاكم الدولية يتبين أن المحكمة الدائمة للعدل الدولي مطردة في أحكامها على اشتراط أن يكون المطالب له بالتعويض من رعايا الدولة التي ترفع الدعوى، وأن يظل كذلك منذ وقوع العمل غير المشروع إلى حين الفصل في الدعوى. وعلى هذا الأساس رفضت المحكمة الدعوى التي أقامتها إستونيا على ليتوانيا بحجة أنه “لا يكفي أن يكون المطالب له بالتعويض قد اكتسب الجنسية الإستونية بعد وقوع الفعل الضار، بل أن إستونيا ملزمة بإقامة الدليل على أنه في الوقت الذي وقع فيه الفعل الضار المرتب للمسئولية الدولية، كانت الشركة التي أصابها الضرر متمتعة بالجنسية الإستونية” (40).

وقد أكد ذلك أيضًا القـاضي “هاكوورث” الرئيس السابق لمحكمة العدل الدولية في رأيه المخالف الذي سبقت الإشارة إليه، واعتبر شرط الجنسية شرطًا لا غنى عنه لمطالبة الدولة بالتعويض عن الضرر الذي أصابه. وتنفق غالبية الأحكام الصادرة من هيئات التحكيم ولجان التعويض المختلطة في دعاوى المسئولية الدولية مع المحكمة الدائمة للعدل الدولي ومع محكمة العدل الدولية في اشتراط استمرار تمتع طالب التعويض بجنسية الدولة التي ترفع الدعوى نيابة عنه من وقت وقوع الفعل الضار إلى حين صدور الحكم في طلب التعويض.

غير أن بعض الأحكام، تؤيدها قلة من الشُرّاح، ترى أنه يكفي أن يظل طالب التعويض محتفظًا بجنسية الدولة المدعية إلى حين رفع الدعوى، ويذهبون إلى أن التغيير اللاحق في جنسية طالب التعويض لا يحول دون استمرار إجراءات الدعوى التي سبق للدولة رفعها نيابة عنه.

كما أن بعض الشراح يدافع عن حق الدولة في حماية حقوق رعاياها الذين اكتسبوا جنسيتها بعد وقوع الفعل الضار، وبالتالي عن حق مثل هذه الدولة في رفع دعاوى المسئولية الدولية نيابة عنهم. وقد تزعم هذا الرأي في اجتماعي معهد القانون الدولي في كامبردج سنة 1927 وأوسلو سنة 1933 فريق من علماء القانون الدولي، على رأسهم “بوليتيس” و”لابراديل”.

ويقول هؤلاء العلماء أن اشتراط أن يكون المطالب له بالتعويض من رعايا الدولة التي ترفع دعوى المسئولية نيابة عنه، وأن يظل محتفظًا بجنسيتها وقت وقوع الفعل الضـار، مرده تأسيس حق الدولة في رفع الدعوى على حصول اعتداء مباشر على حقها، عن طريق الاعتداء على حق واحد من رعاياها، الأمر الذي يستلزم أن يكون طالب التعويض حائزًا لجنسيتها وقت وقوع الفعل الضار. وهم يرون أن مثل هذا التفسير يقوم على الافتراض، وأن التفسير الواقعي الواجب الأخذ به هو أن الدولة ترفع دعوى المسئولية الدولية لتمكين رعاياها من الحصول على حقوقهم من الدول الأخرى إذا لم يتمكنوا من ذلك عن طريق القضاء العادي في الدولة التي صدر عنها العمل الضار. ويترتب على ذلك وجوب الاعتراف للدولة بحقهـا في رفع دعوى المسئولية نيابة عن رعاياها ما داموا متمتعين بجنسيتها وقت رفع الدعوى، ولو كان اكتسابهم للجنسية لاحقًا على وقوع الفعل الضار (41).

الشرط الثاني: استنفاد وسائل التقاضي الداخلية

يشترط أيضًا لجواز رفع الدولة لدعوى المسئولية الدولية نيابة عن أحد رعاياها أن يكون الأخير قد التجأ أولا إلى الجهات القضائية داخل الدولة التي صدر عنها العمل الضار، واستنفد دون جدوى الوسائل المحلية للمطالبة بالتعويض Exhaustion of local remedies, Epuisement préalable des recours internes.

وهذا الشرط يستند إلى اعتبارات عادلة وعملية، إذ يجب أن تتـاح الفرصة للدولة التي صدر عنها العمل الضار لرفع الضرر الذي صدر عنها، وتمكينها من تعويضه تعويضًا عادلاً. وجدير بالأجنبي الذي يلحقه ضرر على إقليم دولة أخرى أن يبدأ أولا بالالتجاء إلى الجهات القضائية في تلك الدولة للحصول على حقه، إذ قد ينجح هذا الأجنبي في الكثير من الحالات في الحصول على التعويض العادل دون حاجة لإثارة الأمر دوليًا. ولا شك أن تلافي أسباب الخلافات الدولية، وتقليل عدد الدعاوى التي ترفعهـا الدول بعضها على بعض فيهما مصلحة محققة للمجتمع الدولي. ويمكن تحقيق ذلك بإلزام الأفراد، قبل مطالبة دولهم يرفع دعاوى المسئولية الدولية نيابة عنهم، باستنفاد وسائل التقاضي الداخلية، فإذا لم توجد في الدولة جهات قضائية يمكنهم الالتجاء إليهـا، أو منعوا من الالتجاء للمحاكم، أو نالهم على يد القضاء ظلم واضح يعتبر إنكارًا للعدالة، جاز للأفراد حينذاك الالتجاء إلى دولهم للاستعانة بها في الحصول على حقوقهم، وذلك عن طريق رفع دعوى المسئولية الدولية.

ویری “بورشارد” أن تكليف الفرد باستنفاد وسائل التقاضي الداخلية مبناه أن الشخص الذي يذهب إلى إقليم دولة أخرى مكلف بأن يأخذ بعين الاعتبار الوسائل القضائية التي يقررها له قانون تلك الدولة، وأن مبـدأ سيادة الدول واستقلالها السياسي يقرر لكل دولة الحق في المطالبة بإعطاء محاكمها الفرصة للحكم بالتعويض في حالة ثبوت مسئولية قبل الدولة، وافتراض أن المحاكم الداخلية قادرة على تحقيق العدالة (42).

وقد بُحثت مسألة وجوب استنفاد وسائل التقاضي الداخلية بحثًا مستفيضًا في مؤتمر لاهاي للتقنين لسنة 1930، وثار الجدل في احتمال إثبات المسئولية الدولية قبل استنفاد وسائل التقاضي المحلية، وانتهى المؤتمر إلى جواز ذلك من الناحية النظرية البحت. أما من الناحية العملية فقد جرت الدول على ألا تثير موضوع المسئولية الدولية إلا بعد استنفاد وسائل التعويض الداخلية. وقد أقر المؤتمر هذه القاعدة، ونصت المادة الرابعة من المشروع الذي أعدته اللجنة الثالثة للمؤتمر على ما يأتي: “لا يجوز رفع دعوى المسئولية الدولية على الدولة لمطالبتهـا بالتعويض عن الأضرار التي تلحق الأجنبي في إقليمها إلا بعد استنفاد كافة وسائل التقاضي التي يسمح بها قانون الدولة للأجنبي الذي أصابه الضرر”.

غير أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي لا يلتزم الفرد فيها بالالتجاء أولا إلى المحاكم الداخلية قبل الالتجاء إلى دولته كي ترفع نيابة عنه دعوى المسئولية الدولية، وهذه الحالات هي:

  1. حالة ما إذا ظهر بوضوح أن المحاكم الداخلية سوف تحكم بعـدم اختصاصها بالنظر إلى أن المسائل التي ستثار أمامها تُعد من أعمال السيادة، ومن ثم يمتنع عليها النظر والفصل فيها.
  2. حالة المسئولية الناشئة عن تصرفات السلطة التشريعية في الدول التي تأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات، والتي لا تسمح لمحاكمها ببحث دستورية القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية. ففي مثل هذه الحالة لا يوجد ما يدعو إلى استنفاد وسائل التقاضي الداخلية قبل رفع دعوى المسئولية الدولية.
  3. تنص الدول أحيانًا في اتفاقات التحكيم Compromis التي تتفق فيها على الهيئة التي يعهد إليها بالفصل في دعوى المسئولية الدولية على عدم جواز رفض الدعوى على أساس أن وسائل التقاضي الداخلية لم تستنفد بعد. ومن قبيل ذلك ما نصت عليه المادة الخامسة من اتفاقية التحكيم المنعقدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك في 8 من سبتمبر سنة 1923 (43).

الشرط المعروف بشرط “كالفو”

رأينا فيما سبق أن دول أمريكا اللاتينية حاولت تحديد مسئوليتها الدولية عن الأضرار التي تصيب الرعايا الأجانب على إقليمها، وذلك عن طريق تضييق نطاق ما يعتبر إنكارًا للعدالة، وتقرير الإعفاء المطلق من تحمل تبعة المسئولية الدولية عن أعمال الثوار، سواء أثبت التقصير أم لم يثبت. ولقد بذلت تلك الدول محاولة أخرى لاستبعاد مسئولياتها الدولية كلية عما يصيب الأجانب على إقليمها من أضرار، إذ جرت على إدراج شرط في العقود التي تبرمها مع الشركات الأجنبية، والرعايا الأجانب على إقليمها، بمقتضاه تتعهد الشركة أو يلتزم الفرد مقدمًا بالاكتفاء بطرق التقاضي المحلية، وعدم الالتجاء إلى دولته كي ترفع نيابة عنه دعوى المسئولية الدولية. ويُعرف هذا الشرط بشرط “كالفو” نسبة إلى كالفو وزير الخارجية السابق لجمهورية الأرجنتين وأستاذ القانون الدولي بجامعتها (44).

وقد اتخذ هذا الشرط صورًا عديدة، أكثرها شيوعًا ذلك الذي درجت المكسيك على تضمينه في عقودها مع الأجانب المقيمين على إقليمها، وهذه صورته: “يُعتبر المتعاقد الأجنبي كالوطنيين في كل الأمور التي قد يتطلبها أو يثيرها تنفيذ هذا العقد داخل جمهورية المكسيك، ومن ثم ليس له أن يطالب بأية حقوق، أو وسائل تقاض، أو تعويض أكثر من الحقوق والوسائل المقررة في قوانين جمهورية المكسيك خاصة برعاياها. ويقر المتعاقد صراحة بتنازله عن سائر الحقوق الثابتة له بوصفه أجنبيًا، كما يقر بعدم الإذن بالتدخل الديبلوماسي من جانب دولته للمطالبة – نيابة عنه – بأي حق من حقوقه تنفيذًا لهذا العقد” (45).

وقد هاجم كثير من الشرّاح هذا الشرط، ورفضوا الاعتراف بصحته، لما يتضمنه من حرمان الدولة من حقها في التدخل لحفظ حقوق رعاياها برفع دعاوى المسئولية الدولية نيابة عنهم. ويستند الفقه في تقرير بطلان هذا الشرط إلى أن للدولة حقًا ثابتًا في حماية حقوق رعاياها، ولا يملك هؤلاء التنازل عنه. فالفرد الذي يذهب إلى إقليم دولة أجنبية لا يستطيع التنازل عن حق دولته في حمايته دبلوماسيًا، لأن هذا الحق مقرر لحكومته. وبناءً عليه يقع تصرفه في هذا الصدد باطلا غير ملزم لدولته. ويضيف بعض الشرّاح إلى ذلك أن من حق الدولة أيضًا أن تتحقق من مراعاة الدول الأخرى لأحكام القانون الدولي، وأن تحول دون خروجها على قواعده. فإذا حدث أن أضرت دولة ما بحقوق رعايا دولة أخرى، وخالفت بذلك أحكام القانون الدولي، فإن منع الدولة من رفع دعوى المسئولية الدولية نيابة عن رعاياها لا يحرمها من حقها في حماية رعاياها فحسب، بل يحرمها أيضًـا من حقها الثابت ومصلحتها الأكيدة في ضمان احترام الدول الأخرى لأحكام القانون الدولي، وتنفيذها لتعهداتها الدولية (46).

أما القضاء الدولي فقد اختلف في شـأن الأثر الذي يرتبه “شرط كالفو”. وأحكام محاكم التحكيم ولجان الدعاوى المختلطة في هذا الصدد يعوزها الكثير من الوضوح والاستقرار. فبعض هذه الأحكام يحكم بصحة هذا الشرط، ويقضي بعدم قبول دعوى المسئولية الدولية ما دام الشخص الذي أصابه الضرر قد تنازل مقدمًا عن حقه في الالتجاء إلى دولته كي تباشر – نيابة عنه – المطالبة بالتعويض أمام المحاكم الدولية. وتذهب أحكام أخرى – على العكس من ذلك – إلى تقرير بطلان هذا الشرط، فترفض الدفع به، وتجيز سماع دعوى المسئولية الدولية على الرغم من وجوده. وباستقصاء الخلافات التي أحيلت على التحكيم، والتي دفعت دول أمريكا اللاتينية فيها بشرط كالفو، يتبين أن لجان التحكيم المختلطة قررت في ثمان منها أن الشرط صحيح، ومن ثم رفضت النظر في طلب التعويض، في حين أنها حكمت في احدى عشرة قضية ببطلان هذا الشرط، وبأن وجوده لا يحول دون رفع دعوى المسئولية (47).

المصدر

  • كتاب القانون الدولي العام، تأليف الدكتور حامد سلطان، أستاذ ورئيبس قسم القانون الدولي العام، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، الطبعة الثانية، يناير 1965.
المسئولية الدولية - طبيعتها وموانعها وأحكامها
المسئولية الدولية – طبيعتها وموانعها وأحكامها
error:
Scroll to Top