مقومات البحث العلمي السليم

من كتاب دليل الباحثين في إعداد البحوث العلمية للدكتور سيد الهواري، الفصل الأول: مقومات البحث العلمي السليم.

أنواع البحوث العلمية

إن كلمة “بحث” – مثل كثير من الكلمات في اللغة العربية – قد تعنى عدة معانِ: فمن الممكن أن تعني استخدام مصادر المكتبة للوصول إلى المعلومات المسجلة وهي معرفة عامة؛ ويسمى هذا بحثًا مكتبيًا. ومن الممكن أن تعنى كلمة “بحث” استطلاع رأى بعض الأفراد نحو موضوع معين، ويسمى هذا بحثًا ميدانيًا. ويمكن أن تعنى كلمة بحث عمـلية اكتشاف معرفة جديدة لم تكن معروفة لأحد من قبل، وحتى لو كانت معروفة للبعض فإنها أصبحت معرفة مغمورة طغى عليها النسيان. هذا وقد يكون البحث دراسة انتقادية لبحث آخر أو موضوع آخر، ويكون الهدف منها اكتشاف نقط القوة ونقط الضعف.

وبالرغم من هذا التحديد الواضح لكل نوع من البحوث فإننا نتوقع تداخلا بينها. فالبحث المكتبي قد يعتمد على جمع بيانات من الأفراد من خلال الاستقصاء، وهو في هذا يجمع بين البحث المكتبي والبحث الميداني. ومن المتوقع لأي بـحـث كان أن يؤدي إلى معرفة جديدة لم تكن معروفة من قبل. ولكن يـجب ألا يغيب عن بالنا أن البحث الأصيل بحـث يضيف إلى العلم إضافة كبيرة واضحة.

وعلى ذلك يمكننا أن نميز بين أربعة مستويات من البحوث:

  1. بحوث قصيـرة على مستوى مرحلة البكالوريوس في الجامعة وهي ما يشار إليها عادة بلفظ term paper
  2. بحوث متقدمة من بين متطلبات الدراسات العليا على مستوى الماجستير ويشار إليها عادة Master’s thesis
  3. وبحوث متقدمة من بين متطلبات الدراسات العليا على مستوى الدكتوراه. ويشار إليها عادة Doctoral Dissertation
  4. وبحوث ما بعد الدكتوراه، وهي عادة ما تكون مرتبطة بترقية المدرس إلى أستاذ مساعد أو من أستاذ مساعد إلى درجة الأستاذية.

وسنعالج فيما يلي هذه البحوث بتفصيل نسبي:

البحوث القصيرة

هذه البحوث القصيرة هي البحوث التي يطلبها الأستاذ في أحد المواد لتشجيع الطالب على الاستزادة مـن منابع العلم بطريقة منهجية. فليس المقصود من هذه البحـوث أن يصل الباحث إلى أفكار مبتكرة أو إضافة للعلم بقدر ما يكون المقصود هو السيطرة على المعرفة المسجلة في موضوع معين. إن الهدف هنا هو أن يتعود الطالب على التعمق في الدراسة في موضوع محدد لكيلا يكون سطحيًا في تفكيره. إن البحث القصير قد يكون عشر صفحات وقد يتعداه إلى 40 صفحة مثلا ولكنه يمثل بداية منطقية للتدريب على رسالة ماجستير، ولا سيما أن الإجراءات النمطية للبحث القصير لا تختلف كثيرًا عن الإجراءات النمطية لرسالة ماجستير أو رسالة دكتوراه.

بحث الماجستير

يختار الباحث – لدرجة الماجستير – مشكلة من المشكلات التي يريد أن يتصدى لها ويضع لها فرضية Hypothesis متعلقة بالحل الممكـن لها. إن بحث الماجستير يعتمد على بحث أصلى (ميداني مثلا) أو على بحث ثانوي بمعرفة الآخرين. وبطبيعة الحال يمكن أن يعتمد على الاثنين معًا.

إن النتائج التي يتوصل إليها الباحث من بلورة وجهات النظر المختلفة والمواد العلمية التي حصل عليها بترتيب منطقي يجب أن تظهر في البحث. وعلى الباحث – في كتابته للماجستير – أن يوضح تفوقه في التراكيب اللغوية (العربية والإنجليزية) كما يجب أن يوضح قدرته على شرح المبادئ والمشكلات الأساسية المرتبطة بالبحث.

بحث الدكتوراه

الدكتوراه إما أن تكون دكتوراه في الفلسفـة أو دكتوراه في العـلـوم. وفي الحالتين هي تعبر عن نظرية جديدة أو إضافة جديدة غير مسبوقة للعلم. أنها إسهام أصلي وأصيل (غير منقـول). وباحث الدكتوراه لا بد أن يتمتع بالفكر الخلاق والصبر للوصول إلى الفكر الجديد. ولا بد أن يكون قادرًا على الاعتماد على نفسه في تصحيح منهـجه؛ بدون إشراف أو حتى بإشراف محدود جدًا.

إنه لا بد أن يدافع عن نظريته الجديدة، أو اعتقاده الذي توصل إليه. ولا تحدث هذه القدرة إلا من خلال منهجية بحث واضحة ودقيقة. إن النتائج التي يتوصل إليها باحث الدكتوراه تجعله معترف به من الآخرين في مجال تخصصه (دليل المعايير لجامعة نيويورك). وهذا هو الفرق بين بحث الدكتوراه وبحث الماجستير.

مقومات البحث العلمي السليم

يكون البحث العلمي سليمًا – كحد أدنى – إذا توافرت فيه (أولا) الموضوعية والترتيب المنطقي والتناسب والوحدة (وثانيًا) الأمانة العلمية (وثالثًا) الشكل واللغة والقواعد.

وفيما يلي تفصيل لهذا الإجمال: (إذا أردت التوسع الآن، راجع الأسس العشرة للبحوث العلمية في نهاية الكتاب).

أولا: بالنسبة للموضوعية والترتيب المنطقي والتناسب والوحدة

يجب أن يتصف البحث بالموضوعية والترتيب المنطقي والتناسب والوحدة على الوجه التالي:

  1. أن يكون عنوان البحث معبرًا بدقة عما يتم مناقشته في البحث بدقة، فكثيرا ما يكون عنوان البحث مضللا للقضايا المطروحة للبحث.
  2. أن يكون هدف البحث محددًا وواضحًا بحيث يمكن تتبع البحث إلى نهايته.
  3. وأن تكون النتائج التي توصل إليها الباحث مرتبطة تمام الارتباط بالدلائل التي قدمت دون تحيز، دون ترك معلومات مهمة ودون أخذ نصف الحقائق وترك النصف الآخر، وهو ما يتطلب السيطرة ابتداءً على كل ما كتب عن الموضوع. (البحث العلمي لابد وأن يكون موضوعيًا ولذلك شروط معينة).
  4. أن يراعي الترتيب المنطقي في الأبواب والفصول والفقرات والجمل. بمعنى أن يكون النقـل ممهدًا بشكل منطقي – وليس مجرد استخـدام كلمات ربط عارضة – من باب إلى باب ومن فصل إلى فصل ومن مبحث إلى مبحث ومن فكـرة إلى فكرة ومن جملة إلى جملة، ويتطلب ذلك عدم حشو الفصـول أو الفقرات بكلام لا لزوم له. إن الترتيب يجب أن يحكـمه التصاعـد الدرامي للأفكار ابتداء من الفرضيات في البحث وحتى الوصول إلى النتائج.
  5. أن يكون هناك تناسب في حجم الأبواب والفصول والمباحـث بحيث لا يكون هناك باب أكبر كثيرًا من باب آخر أو فصـل أكبر كثيرًا من فصل آخر، لأن معنى ذلك أن الباب الكبير أو الفصل الكبير أو حتى المبحث الكبير يحوي أفكارًا يمكن تجزئتها. فالمعتاد أن تكون الأبواب أو الفصول الأولى كبيرة حيث يجمع الباحث بيانات أكثر من اللازم عندما يكون متحمسًا، في حين يتم تجميع بيانات أقل من اللازم في نهايـة البحث أو نهاية الفصل، بالرغم من ضرورة إعطاء اهتمام ملائم لكل جزء من البحث.
  6. أن يكون البحث في مجموعه وحدة واحدة وليس مجرد يحثين أو أكثر من موضوعين مع بعضهما. إن البحث الذي يتصف بالوحدة هو البحث الذي يحكمه التصاعد الدرامي للأفكار ابتداء من فرضيات البحث حتى الوصول للنتائج. وما يساعد على وحدة البحث واستمراريته الترتيب المنطقي بطبيعة الحال.

ثانيًا: بالنسبة للأمانة العلمية

يجب أن يتصف البحث العلمي بالأمانة العلمية وذلك بتجنب ما يعتبر سرقة علمية بأشكالها التالية:

  1. ذكر أفكار الغير دون الاعتراف بحق الشخص صاحب هذه الأفكار. بمعنى ضرورة الإشارة إلى صاحب أي فكـرة أو أي رأي في متن البحث. نأخذ أفكار الغير دون الإشارة إليها سرقة علمية علنية، (من غشنا فليس منا، حديث شريف).
  2. ذكر أسلـوب الغير في متن البحث على أنه أسلوب الباحث نفسه دون الإشارة لهذا الغير لأن ذلك سرقة علمية علنية
  3. ذكر أسلوب الغير بالنص الحرفي دون الإشارة إلى أن هذا النقل نقل حرفي: فهناك فرق بين نقل النصوص حرفيًا وبين إعادة صياغة الأفكار، وأي خلط بينهما يوقع صاحبها في اتهام “سرقة علنية”. وعلى هذا يجب الالتزام بالتفرقة الدقيقة بين النقل الحرفي وبين إعادة صياغة أفكـار الغير بأسلوب الباحث نفسه.
  4. إن التوثيق الذي لا يوضح اسم المؤلف واسم الكتاب ومكـان النشر واسم الناشر وسنة النشر ورقم الصفحة توثيق مضلل. وسنتكلم عن أسس التوثيق في الفصل السابع.
  5. إن بتر النصوص أو الأفكار أو التحيز – سواء بقصد أو بدون قصد – عند النقل الحرفي أو عند نقل الأفكار ليس من الأمانة العلمية؛ فالذي يقول “ويل للمصلين” على أنها منقولة بالنص من القرآن الكريم شخص غير أمين (وآثم) لأنه بتر الآية، أي أنه لم يكملها كلها. وتظهر أهمية الأمانة العلمية أيضًا عـند فصل الفكرة من مجال ذكرها وأخذهـا بشكل مطلق دون ذكر الظروف أو الملابسات أو التحفظات التي وردت معها. (يجب توافر الأمانة العلمية لكي يكون البحث علميًا ولذلك شروط معينة).
  6. ليس من الأمانة العلمية الاعتماد على مجموعة معينة من المؤلفين الذين لديهم ميول أو توجهات فكرية خاصة، أو مؤلفين مشهورين بعدم دقتهم وأمانتهم العلمية وكتاباتهم التي تتصف بالدعائية و”البروبوجندا”. إن ذلك معناه التحيز بالرغم من أنه يأخذ شكل الدراسة الموضوعية.
  7. عدم الاعتماد على مراجع قديمة أو مقالات تحت ظـروف الحرب أو الاعتماد على تصريحات حزبية أو مقالات في الجرائد مكتوبة “للاستهلاك المحلي”؛ يضعف من الأمانة العلمية للبحث.
  8. ليس من الأمانة العلمية ذكر مرجع في قائمة المراجع لم يتم الاستعانة به في البحث حيث يجب أن تحوي قائمة المراجع تلك التي تم استخدامها فقط في البحث، لأن وضع تلك المراجع التي لم تستخدم في البحث في قائمة المراجع فيه تضليل للقارئ، وذلك ليس من الأمانة العلمية.

ثالثًا: بالنسبة للشكل واللغة والقواعد

 يجب أن يتصف البحث بمتطلبات الشكل واللغة والقواعد على الوجه الآتي:

  1. يجب أن يكون الشكل العام للصفحات نمطي من حيث المسافات أعلى وأسفل ويمين وشمال الصفحة الواحـدة ومن حيث شكل عنوان صفحة البحث وأولى صفحات الفصول، وطريقة إدخال النصوص الحرفية، وطريـقـة الإشارة في الهامش وتـرقـيـم الجداول والأشكال وترتيب الصفحات، … إلخ.
  2. يجب مراعاة الدقة في اختيار الألفاظ بحيث تعبر عن المعنى المقصود فقط دون تهويل.
  3. يجب توافر الاتساق في التراكيب اللغوية سواء في متن البحث أو في عناوين الأبواب والفصول والمباحث والعناوين الجانبية.
  4. ويجب عدم استخدام الضمائر الشخصية للباحث مثل (أنا ونحن) لأن ذلك يجعل البحث وجهة نظر شخصية وليس موضوعيًا. إن المكان الوحيد المصرح فيه باستخدام ضمير الباحث هو مقدمة البحث وصفحة الشكر فقط.
  5. يجب مراعاة عـدم وجود أخطاء لغويـة. أخطاء في اللغة والقواعد والتراكيب اللغوية. وليس هناك عذر في إلقاء اللوم على من كتب البحث على الحاسب الآلي. إن المسئولية هنا هي مسئولية صاحب البحث.

البحث العلمي له شكل خاص ويتمتع بالدقة في اللغة والتراكيب اللغوية. عدد مقومات البحث العلمي السليم التي يجب أن تسيطر عليها 19: تأكد من السيطرة عليها.

الإجراءات النمطية للبحوث العلمية

إن مقومات البحث العلمي السليم السابق عرضها تتطلب إجراءات نمطية، وعادة ما يكون هناك اتفاق حولها بين كثير من أساتذة البحث العلمي وأي خلل في هذه الإجـراءات النمطيـة يؤثر على البحث سواء في البداية أو في مراحله الوسطى أو في النهاية.

 ويمكننا أن نحدد الخطوات النمطية على الوجه التالي:

  1. يجب على الباحث أن يتعلـم كيف يبحث في المكتبة وكيف يبحث عن مصادر المعرفة الأخرى (مقابلات شخصية إلخ). مثل هذا البحث يأخذ وقتًا كبيرًا ومجهودًا عظيمًا. ولكن طريقة الحصول على هذه المعرفة طريقة نمطية ولها أصولها والنتائج المترتبة عليها تستحق بذل المجهود.
  2. يجب أن تتعلم كيف تأخـذ مذكرات مفيدة مـن مصادر المعرفة المختلفة ولذلك فإنه يجب عليك أن تطور مهارتك في تقرير المفيد لبحثك من غير المفيد. ويجب أن تتعلم كيف تميز هذه المعلومات المفيدة بسرعـة وكيف تسجلها على بطاقات حتى يمكنك الرجوع إليها مستقبلاً.
  3. يجب أن تتعلم كيفية تقييم درجة دقة وإمكانية الاعتماد على الحقائق والآراء التي تجمعها. ويجب أن تتعلم كيف تميز بين الحقائق والآراء والأحاسيس، بين العرض العلمي والعرض الدعائي.
  4. يجب أن تتعـلم كيف تستوعب المعلومات التي تحصل عليها وتقدر الاتجاه الذي تقوده إليك تلك المعلومات.
  5. يجب أن تتعلم كيف تفسر الدلائل التي يكشف عنها بحثك من أجل أن تتوصل إلى نتائج منطقية رشيدة. فعلى سبيل المثال ربما تجد دلائل مشكوك فيها أو دلائل متعارض بعضها مع بعض في مصادر معلومات محترمة ولها سمعتها، وبالتالي فالمطلوب منك أن تستخدم حكمك في قبول أو رفض وجهات النظر المختلفة.
  6. يجب أن تتعلم كيف تنظم النتائج التي تتوصل إليها ببحثك في شكل بحث واحد متسق ومتكامل. ويجب أن تتعلم كيف تنظم الكمية الكبيرة من المعلومات التي تحت يديك، وتتوصل إلى نتائج منطقية.
  7. يجب أن تزيد من قدرتك على استخدام طريقة عرض وتكوين تركيات لغوية كي يعطى بحثك قدرة إقناعية للقارئ.
  8. أخيرًا، يجب أن تتعلم كيف تستخدم التوثيق في المتن وكيف تضع قائمة المراجع من أجل توفير متطلبات التوثيق (الأمانة العلمية والطريقة) التي يتصف بها البحث العلمي.

عدد الإجراءات النمطية التي يجب أن تسيطر عليها للحفاظ على مقومات البحث العلمي السليم هي ثمانية على الأقل: راجع وتأكد.

المصدر

  • كتاب دليل الباحثين في إعداد البحوث العلمية، ابتداء من اختيار الموضوع حتى وضع البحث في صورته النهائية، تأليف الدكتور سيد الهواري، القاهرة، 2004. الفصل الأول: مقومات البحث العلمي السليم.
مقومات البحث العلمي السليم
مقومات البحث العلمي السليم
error:
Scroll to Top