رابطة السببية في القانون الجنائي

الملخص

شرح المقصود بـ رابطة السببية ومتى تثور مشكلتها. نظريات الفقه والقضاء التي وضعت حلا لمشكلة رابطة السببية، نظرية السبب الملائم، نظرية تعادل الأسباب. تقييم هذه النظريات. تقدير رابطة السببية.

ما هي رابطة السببية

رابطة السببية هي العنصر الثالث من عناصر الواقعة الإجرامية.

وهي الرابطة السببية بين العنصرين الأول والثاني للجريمة:

  1. السلوك الإجرامي
  2. والنتيجة الإجرامية

والتي تشكل معًا العناصر الثلاثة للركن المادي للجريمة.

فوجود رابطة سببية بين السلوك الإجرامي والنتيجة الإجرامية شرط أساسي لكي يكون الجاني محلا للمسائلة الجنائية والمدنية.

وهو الذي يعطي النتيجة معناها القانوني في نظر التشريع العقابي.

فالمسئولية الجنائية لشخص من الأشخاص تجد أساسها في أن ما تحقق من نتيجة إنما هو بسبب سلوكه الإجرامي.

لذلك فلا محل للمسائلة الجنائية إذا لم تكن هناك أية رابطة سببية بين السلوك الإنساني والنتيجة التي تحققت.

وهذا ما يُسمى بالإسناد المادي ويعني نسبة النتيجة الإجرامية إلى سلوك إنسان معين.

وذلك في مقابل الإسناد المعنوي الذي يعبر عن الركن المعنوي للجريمة.

وتمثل مشكلة السببية إحدى المشكلات الرئيسية في القسم العام من القانون الجنائي وكانت موضوعًا لكثير من الدراسات المستفيضة في مصر والعالم.

متى تثور مشكلة رابطة السببية ؟

لا تثور مشكلة رابطة السببية في جميع الجرائم.

فهي لا تمثل مشكلة إلاّ بالنسبة للجرائم المادية، وهي التي يتطلب القانون فيها ضرورة تحقيق نتيجة مادية منفصلة عن السلوك الإنساني. وحتى بالنسبة للجرائم المادية فهي لا تثور دائمًا، لأن النتيجة الإجرامية يمكن أن تتحق في الحال من جرّاء سلوك الجاني، وبالتالي فليس هناك ثمة شبهة في نسبة النتيجة الإجرامية إلى فاعلها. ولكن يحدث في كثير من الأحيان أن يتباعد تحقق النتيجة زمنيًا عن الوقت الذي تم فيه السلوك الإجرامي، ويُتصور أن تتداخل في تلك الفترة عوامل أخرى، ويكون لها هي الأخرى دور في تحقق النتيجة، فعندئذٍ تثور الصعوبة بل أنها تكون في غاية الدقة في بعض الأحيان.

ففي جريمة القتل مثلا، فإن مشكلة رابطة السببية لا تمثل مشكلة على وجه الإطلاق إذا كان الجاني قد أطلق مقذوفًا ناريًا على آخر قضى عليه في الحال. فهنا لا شبهة في أن سبب القتل يرجع إلى العيار الناري الذي أطلقه الجاني. ولكن إذا كانت الوفاة – في هذا المثال – لم تتحقق إلاّ بعد فترة من الزمن، فإنه لا بد من البحث فيما إذا كانت هناك علاقة سببية بين الوفاة وإطلاق العيار الناري. وقد تدق المسألة في بعض الأحيان، إذا ثبت مثلا أن المجني عليه قد أهمل في علاج الجرح الذي أصابه. أو كان هناك خطأ من الطبيب الذي عالجه. أو أن يحدث حريق في المستشفى الذي يُعالج فيه فيقضي على من فيه. وكما لو أن تصطدم سيارة الإسعاف التي تنقله ويموت من فيها.

ففي هذه الصور المختلفة تثور الصعوبة ويدق البحث لمعرفة ما إذا كان الجاني يظل مسئولا عن النتيجة التي حدثت، بالرغم من تدخل عوامل أخرى في تحقيقها، أم أن هذه العوامل الأخيرة تقطع رابطة السببية بين السلوك المبدئي للجاني والنتيجة النهائية التي وقعت. ولحل هذه الصعوبة فقد لجأ الفقه والقضاء إلى معايير متعددة للاهتداء في هذا المجال.

نظريات الفقه والقضاء التي وضعت حلا لمشكلة رابطة السببية

إن أهم النظريات التي قُدمت لحل مشكلة رابطة السببية نظريتان هما:

  1. نظرية تعادل الأسباب
  2. ونظرية السبب الملائم

نظرية تعادل الأسباب

قدمها الفقيه الألماني فون بوري Von Buri في أواخر القرن التاسع عشر.

وتعتمد نظرية تعادل الأسباب على المساواة بين جميع الأسباب والعوامل التي أسهمت في إحداث النتيجة.

أي أن هذه الأسباب تتعادل بالنسبة لإحداث النتيجة، طالما أنه تربط بين كل منها والنتيجة رابطة سببية.

فلا يجب البحث إلاّ عن الإجابة عن السؤال التالي:

هل يُتصور تحقق النتيجة دون وجود هذا السبب؟

فإذا كانت الإجابة بالإيجاب فإن معنى ذلك عدم وجود رابطة السببية وبالتالي فلا مسئولية جنائية.

أما إذا كانت الإجابة بالنفي فمعنى ذلك وجود علاقة سببية بين النتيجة وذلك السبب. ومن ثم تترتب المسئولية على من أحدث هذا السبب، لأنه لولاه لما كانت النتيجة. ولا عبرة بعد ذلك بوجود أسباب أو عوامل أخرى تضافرت أو تداخلت في إحداث النتيجة.

فإذا أطلق شخص الرصاص على آخر لقتله، ولكنه أصيب فقط ثم نُقل إلى المستشفى للعلاج ولكنه مات بعد ذلك بسبب حدوث حريق في المستشفى أو لإهماله بعد ذلك في العلاج، أو لأن الطبيب ارتكب خطأ جسيم في علاجه، أو توفي وهو في الطريق للمستشفى في حادث تصادم. ففي جميع هذه الأحوال يُسأل الشخص الأول ولو تداخلت العوامل أو الأسباب الأخرى في إحداث النتيجة، حتى ولو كانت شاذة أو غير متوقعة، كإهمال المريض في علاج نفسه أو لخطأ الطبيب خطأ جسيم أو حدوث حريق بالمستشفى الذي نُقل إليه مما أدى إلى وفاته. فلولا حدوث الإصابة لما نقل إلى المستشفى ولما كان هناك محل للإهمال في العلاج. أما إذا ثبت أن الفعل الأصلي لم يسهم على أية صورة في إحداث النتيجة فلا يعد صاحبه مسئولا.

تقييم نظرية تعادل الأسباب

يتميز الضابط الذي تقترحه هذه النظرية بالسهولة والوضوح، ولكنها تعرضت لانتقادات عديدة، يمكن تلخيصها فيما يلي:

  1. أنها اعتمدت في حل مشكلة رابطة السببية في القانون الجنائي على المنطق المجرد، وإلى قانون السببية في العلوم الطبيعية، وأدى ذلك إلى توسيع نطاق السببية في القانون الجنائي ومسائلة الشخص عن فعله ولو كانت درجة إسهامه في حدوث النتيجة ضئيلا للغاية. ويجب التفرقة بين السببية في العلوم الطبيعية والسببية في القانون الجنائي الذي لا يهتم إلاّ بالعوامل التي لها أهمية قانونية.
  2. أنها تؤدي إلى نتائج غير مقبولة بالنسبة لأفعال لا شك في إسهامها فيما حدث من نتيجة إجرامية، ولكن المنطق القانوني يرفض العقاب عليها. فالشخص الذي يدعو صديقه إلى الخروج معه في نزهة بسيارتها ثم يقع حادث تصادم ويموت الصديق في هذا الحادث، فإن ذلك الصخ يكون مسئولا عن موت صديقه بحسب منطق هذه النظرية، لأنه لولا ذهابه معه لما تحققت الوفاة. وقد أدى هذا الانتقاد إلى تصحيح هذه النظرية الشاذة بإضافة العنصر المعنوي المستمد من الركن المعنوي في الجريمة. فلا يكفي أن تتوافر السببية المادية، وإنما يجب أن يتوافر العمد أو الخطأ في حق الشخص حتى يمكن القول بالمسائلة الجنائية. وتطبيقًا لذلك فإنه لا مسئولية جنائية في هذا المثال، لأن الشخص الذي دعا صديقه إلى النزهة معه في سيارته لا يتوافر في حقه العمد الجنائي أو الخطأ بالرغم من أنه هو الذي حرك العوامل الأخرى التي أدت إلى الوفاة.
  3. أنها تؤدي بصفة عامة إلى توسيع دائرة العقاب وتحميل الجاني المسئولية حتى بالنسبة للعوامل الأخرى مهما كانت بعيدة أو شاذة. فلو افترضنا مثلا أن شخصًا أصاب آخر بجراح بسيطة، ونُقل هذا الأخير إلى المستشفى ثم مات بسبب وقوع حريق في المستشفى، فإن الجاني يُعد مسئولا عن الوفاة بالرغم من أن الإصابة بطبيعتها لم يكن يترتب عليها الوفاة.

نظرية السبب الملائم

حظيت هذه النظرية بتأييد كبير في ألمانيا وفرنسا، سواء في نطاق القانون الجنائي أو في نطاق القانون المدني.

ووفقًا لهذه النظرية، فإنه يجب التفرقة بين العوامل والأسباب التي تتداخل في إحداث النتيجة على أساس دور كل منها بالنسبة لتحقق تلك النتيجة، وواضح أن هذه النظرية تناقض تمامًا نظرية تعادل الأسباب، لأنها تبدأ من منطلق آخر يقوم على التفرقة بين العوامل التي تضافرت في إحداث النتيجة، حيث لا يمكن القول بأن كل هذه العوامل تعتبر سببًا للنتيجة الإجرامية. فالعوامل الملائمة أو المناسبة هي وحدها التي تعتبر أسبابًا بالمعنى القانوني. والعامل الملائم أو السبب الملائم هو الذي يكون وحده كافيًا لإحداث النتيجة الإجرامية، وفقًا للمجرى العادي للأمور، ويجب استبعاد كافة الأحداث أو السوابق الشاذة التي لا تؤدي عادة إلى إحداث تلك النتيجة.

ولتوضيح مدلول هذه النظرية، فيما يلي المثال التالي: لو افترضنا أنه صدم شخص آخر بسيارته فأصابه بجراح نقل على إثرها إلى المستشفى، ثم شب حريق في العنبر الذي كان يقيم به، وأدى ذلك إلى وفاته مع غيره. فوفقًا لنظرية السبب الملائم، فإنه لا توجد علاقة سببية بين الوفاة وبين الحادث المبدئي، لأن الوفاة حدثت بسبب الحريق. ويبدو من هذه النتيجة الفرق بين نظرية السبب الملائم ونظرية تعادل الأسباب، فوفقًا لهذه النظرية الأخيرة فإن الجاني الذي صدم المجني عليه يكون مسئولا عن الوفاة، لأن فعله الأول هو الذي حرك العوامل الأخيرة ولولاه لما احتاج الأمر إلى نقله إلى المستشفى ووفاته.

تقييم نظرية السبب الملائم

إذا كانت نظرية السبب الملائم تقوم على أساس المفاضلة بين الأسباب واختيار السبب الملائم، فإن معنى ذلك أنها تعتمد في الأساس على نظرية تعدد الأسباب، ولكنها لا تساوي بين الأسباب جميعها مهما كانت درجة ابتعادها أو اقترابها من النتيجة الإجرامية، ويؤدي ذلك إلى حصر السببية في العوامل الكافية أو المناسبة لإحداث النتيجة، وفي ذلك تضييق لنطاق المسئولية الجنائية. ولذلك فقد عيب عليها أنها تسرف في محاباة الجاني وعدم تحميله المسئولية الجنائية عن بعض النتائج المترتبة على فعله.

ولقد قدم الفقه الجنائي عدة تعديلات على هذه النظرية يُذكر منها ذلك الاتجاه الذي يركز على موقف الجاني شخصيًا وأثر ذلك في تحديد علاقة السببية. ويعتمد هذا الاتجاه على أن الإنسان بحكم ما يتوفر ليده من إدراك وإرادة يمكن أن يكون على بينة من النتائج التي يؤدي إليها فعله. فالإنسان يستطيع أن يضع في حسبانه الظروف التي تساعده في سلوكه أو تلك التي يمكن أن تعوقه في حركته، ويمكن للإنسان بالتالي أن يتوقع مسبقًا النتائج التي يؤدي إليها سلوكه، وذلك لأن هناك نطاق معين يمكن للإنسان فيه أن يتحكم في نتائج فعله. ويؤدي ذلك الاتجاه إلى التخفيف من النتائج التي يؤدي إليها مذهب السببية الملائمة، لأنه يضيق من نطاق العوامل التي تقطع رابطة السببية، ويقصرها على العوامل الاستثنائية التي تخرج عن الدائرة التي يتحكم فيها الإنسان بما عهد فيه من بصيرة.

ولذلك فإن علاقة السببية، وفقًا لهذا الاتجاه، تتكون من عنصرين إحداهما إيجابي والآخر سلبي:

العنصر الإيجابي:

هو العامل الذي وضعه الإنسان لسلوكه كمسبب للنتيجة التي تحققت.

العنصر السلبي:

هو ألاّ يكون حدوث النتيجة راجع إلى تدخل عامل من العوامل الاستثنائية.

وتطبيقًا لذلك فإن رابطة السببية تًتستبعد في الحالات الآتية:

  1. إذا كانت الإصابة خفيفة، ولكن المجني عليه مات من إثر الحريق الذي شب في المستشفى الذي كان يُعالج فيه.
  2. الشخص الذي تكون إصابته طفيفة، ولكنه يهمل إهمالا جسيمًا في العلاج، أو يخطئ الطبيب المعالج خطأً جسيمًا في علاجه، ويترتب على ذلك الوفاة.

تقدير توافر رابطة السببية

من المقرر أن محكمة الموضوع هي التي تفصل في وجود رابطة السببية أو انقطاعها.

ولكن يجب على محكمة الموضوع أن تبين في حكمها توافر رابطة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة الإجرامية. خاصة إذا كانت هناك عوامل أخرى متداخلة وإلاّ كان الحكم قاصرًا.

المصدر

كتاب: النظرية العامة للجريمة، (الشرعية الجنائية، سريان القانون من حيث الزمان والمكان. تقسيمات الجرائم، أركان الجريمة، المساهمة الجنائية في القانون الجنائي). تأليف الدكتور: جميل عبد الباقي الصغير

  • أستاذ القانون الجنائي، كلية الحقوق، جامعة عين شمس
  • عميد الكلية سابقًا، المحامي لدى محكمة النقض
رابطة السببية في القانون الجنائي
رابطة السببية في القانون الجنائي
error:
Scroll to Top