تقسيم التأمين ونشأته وتطوره

تقسيم التأمين

يقسم الكتّاب التأمين بأكثر من طريقة ولأكثر من غرض. وكثيرًا ما يتوسع الكتّاب في تقسيم التأمين إلى مجموعات وأقسام فرعية لدرجة يسهل معها حصر جميع الأقسام على وجه الدقة فتأتي على سبيل الحصر وليس على سبيل المثال. وبالرغم من هذه الدقة في التقسيم إلا أنه يصعب أن يستقر التقسيم مدة طويلة بدون أن يفقد صفة الحصر هذه، إذ أن أنواعًا مستجدة من التأمين تظهر فائدتها يومًا بعد آخر فتضاف إلى إحدى المجموعات المستقر عليها أو تنفرد بقسم جديد خاص بها.

ويختلف الكتّاب في تقسيمهم للتأمين باختلاف غرضهم من التقسيم. ومن أبرز طرق التقسيم التي تذكر في دراسة التأمين تقسيمين رئيسيين هما التقسيم النظري والتقسيم العملي.

ويتوقف التقسيم النظري أو العملي للتأمين عادة على الغرض الرئيسي من البحث ونظرة الباحث إلى عمليات التأمين. وغالبًا ما تكون الظواهر التي تسبب تحقق الخطر أو الحوادث التي تترتب عنها الخسارة هي المرشد الظاهر في مثل هذا التقسيم. وهذا لا يمنع من وجود تقسيمات نظرية أخرى يكون المرشد فيها ملكية الأصل موضوع التأمين، أو تحمل عبء الخسارة المالية عند تحقق الحادث المؤمن عليه، أو ما شابه ذلك من عوامل تكون هي في حد ذاتها موضوع البحث إلى جانب التأمين. وقد ترتب على ذلك وجود أكثر من طريقة لتقسيم التأمين من الناحية النظرية، إذ اتخذ كل كاتب طريقة خاصة به.

أما التقسيم العملي للتأمين فإنه يتوقف على ما يجرى عليه العرف في هيئات التأمين من ناحية، وما يورده المشرع في القوانين المدنية من ناحية أخرى. وبالرغم من أن العرف والمشرع غالبًا ما يتفقان على تقسيم التأمين بشكل معين داخل حدود كل دولة، إلا أن التقسيم العملي للتأمين يختلف من دولة إلى أخرى، وفي بعض الأحيان من ولاية إلى أخرى داخل الدولة الواحدة، كما هو حادث فعلاً في الولايات المتحدة الأمريكية.

التقسيم النظري للتأمين

تقسيم التأمين حسب الظواهر المسببة للحوادث

قسم بعض الكتّاب التأمين إلى مجموعتين، متخذين الظواهر المسببة للحوادث موضوع التأمين مؤشرًا لذلك. المجموعة الأولى خاصة بالتأمينات من الحوادث التي لا يدخل الإنسان كعنصر في حدوثها، وهي عادة ما تكون نتيجة ظواهر طبيعية بعيدة عن مقدرة الإنسان العادي على التحكم فيها. مثال ذلك التأمين من حوادث الوفاة والمرض الطبيعيين، والفيضانات والبراكين والصواعق والتيارات المائية والهوائية. والمجموعة الثانية خاصة بالتأمينات من الحوادث التي يدخل الإنسان كعنصر في حدوثها، سواء عن طريق تسببه في حدوثها أو إمكانه التحكم في تحققها أو تقليل أضرارها. مثال ذلك التأمين من حوادث السرقة والسيارات والحريق والمسئولية الناتجة عن الإهمال.

تقسيم التأمين حسب مسببات الخطر

يقسم البعض الآخر التأمين حسب مسببات الخطر إلى مجموعتين هما مجموعة تأمينات متعلقة بمسببات الخطر الأساسية العامة Fundamental Hazards Insurance ومجموعة تأمينات متعلقة بمسببات الخطر الخاصة أو بالإنجليزية Particular Hazards Insurance. وهذا التقسيم يعتمد على أن المجموعة الأولى من التأمينات تغطى الأخطار العامة التي تلحق عادة بأعداد كبيرة من أفراد المجتمع، ومن المستحيل أن بتسبب في تحققها فرد معين، كما يصعب على الفرد تجنبها أو منع تحققها. أما المجموعة الثانية من التأمينات فهي تغطي الأخطار الخاصة التي تكون نشأتها وتأثيرها فردى إلى حد كبير.

ويعود نفس الكتاب ويقسمون المجموعة الأولى إلى ثلاثة فروع، الفرع الأول منها هو تأمينات خسائر ناتجة عن النظام الاقتصادي للدولة مثل تأمين البطالة وإصابات العمل وأمراض المهنة. والفرع الثاني تأمينات خسائر ناتجة عن النظام السياسي والاجتماعي مثل تأمينات خسائر الحروب والثورات والإضرابات والشغب. والفرع الثالث تأمينات خسائر ناتجة عن تقلبات الطبيعة مثل تأمين الزلازل والبراكين والتيارات المائية والهوائية والأوبئة.

ويقسمون المجموعة الثانية وموضوعها تأمينات الأخطار الخاصة إلى فرعين رئيسيين هما تأمينات الخسائر التي إذا تحققت تؤثر على الشخص أساسًا، وتأمينات خسائر إذا تحققت تؤثر على الغير أساسًا. والفرع الأول يكون إما تأمينات الخسائر التي تؤثر على دخل أو ممتلكات الأشخاص مثل تأمين الحريق والسرقة وكسر الزجاج بالنسبة لممتلكاتهم والمرض والوفاة بالنسبة لدخولهم، وإما تأمينات خسائر تؤثر على ناتج أعمالهم مثل نفس التأمينات السابقة بالنسبة للأعمال التجارية. أما الفرع الثاني فهو إما تأمينات الخسائر التي تحيق بممتلكات الغير أو أشخاصهم مثل تأمين المسئولية عن إصابة شخص آخر أو ممتلكاته نتيجة استعمال سيارة خاصة، وتأمين المسئولية عن إصابة مبنى مجاور أو صاحبه نتيجة حريق مبنى يملكه المؤمن له، وإما تأمينات الخسائر التي تؤثر على أعمال الأشخاص. مثل تأمين مسئولية الأطباء والصيادلة عن إصابة الآخرين وكذلك تأمين مسئولية الملاك والمستأجرين من إصابة الآخرين.

التقسيم العملي للتأمين

التقسيم العملي لكتّاب التأمين

يقسم الكتّاب الإنجليز التأمين إلى أربعة فروع هي التأمين البحري، والتأمين من الحريق، والتأمين على الحياة، والتأمين من الحوادث. ويوافق معظم الكتّاب المصريين على التقسيم السابق، كما يرى البعض أنه يمكن تقسيم التأمين إلى قسمين فقط وهما تأمينات الحياة والتأمينات العامة.

ويقسم كتّاب أمريكا تأمين الممتلكات إلى ستة أقسام هي: تأمين الحريق عامة مثل تأمينات الحريق والتوقف عن العمل وخسائر مياه الإطفاء والإضافات المنزلية، وتأمينات النقل عامة التي تنقسم بدورها إلى التأمين البحري وتأمين الطيران وتأمين النقل الداخلي، وتأمينات المسئولية عامة، وتأمينات السرقة، وتأمينات الآلات والغلايات. وأخيرًا تأمينات أخرى لكل ما لا يمكن وضعه تحت العناوين السابقة. أما تأمينات الحياة فيميلون إلى تقسيمها إلى تأمينات الحياة العادية، وتأمينات الحياة الجماعية، وتأمينات الحياة الصناعية.

هذا من ناحية كتاب التأمين الذين خاضوا غمار التقسيم العملي.

التقسيم العملي لتشريعات التأمين

من ناحية أخرى تقوم تشريعات التأمين بتوضيح الأقسام العملية – وهي المتبعة عادة في هينات التأمين – في كل بلد حسب طريقتها الخاصة.

فيما يلي نتعرض لأهم هذه التشريعات ونورد تقسيمها لعمليات التأمين:

التشريع الإنجليزي

ففي إنجلترا يقسم القانون الإنجليزي أعمال التأمين إلى مجموعتين: تأمينات الحياة Life Assurance والتأمينات العامة Non – Life or General Insurance ثم يقوم المشرع بتقسيم التأمينات العامة إلى ثلاثة أقسام فرعية هي:

  • تأمين الحريق
  • وتأمين الحوادث
  • والتأمين البحري

التشريع الأمريكي

وفي الولايات المتحدة الأمريكية يختلف التقسيم من ولاية إلى أخرى. وبالرغم من أن الولايات المختلفة تقسم التأمينات إلى أنواع تتراوح بين خمسة عشر وعشرين نوعًا، إلا أن هذه الأنواع توضع عادة في مجموعتين مختلفتين هما مجموعة تأمينات الأشخاص ومجموعة تأمينات الممتلكات والمسئولية. ومجموعة تأمينات الأشخاص تتفرع إلى تأمين الحياة. وتأمين الحياة الجماعي. وتأمين الحياة الصناعي. تأمين العجز. ومجموعة تأمينات الممتلكات والمسئولية تتفرع بدورها إلى تأمين الحريق. التأمين البحري. تأمين المسئولية. وتأمين الغلايات. تأمين خيانة الأمانة، وتأمين الملكية. تأمين الائتمان السرقة. وتأمين ألواح الزجاج. وتأمين رشح أجهزة إطفاء الحريق الذاتي. تأمين المصاعد. وتأمين الماشية. وتأمين السيارات. تأمين مسئولية المال. وتأمين مصاريف العلاج والمصاريف الإضافية الأخرى. تأمين الحوادث الأخرى.

التشريع المصري

وفي مصر قسم القانون رقم 190 لسنة 1959 عمليات التأمين إلى ستة فروع وقام بتجميعها في مجموعتين. الأولى خاصة بتأمينات الأشخاص وما في حكمها. والثانية خاصة بتأمينات الممتلكات والمسئولية. وقد قسم القانون المذكور المجموعة الأولى إلى: تأمينات على الحياة وعقود الادخار وتكوين الأموال. وقسم المجموعة الثانية إلى: التأمين من الحوادث والمسئولية، والتأمين من الحريق، والتأمين من حوادث النقل البري والنهري والبحري والجوي. وأخيرًا التأمين من جميع الحوادث التي لم ينص عليها صراحة فيما سبق.

وهذا التقسيم العملي للتأمين يستدعي وجوده عوامل عدة نذكر منها على سبيل المثال أنه يفيد في معرفة نوع التعاقد الذي تم بين المؤمن والمستأمن. كما يفيد في تقسيم الوظائف الفنية الموجودة في المشروع التأميني إلى أقسام نوعية متناسقة. وأخيرًا يفيد في تحديد رأس المال اللازم لكل فرع من فروع التأمين أو لعدة فروع مشتركة منها.

تقسيم عملي آخر للتأمين

التأمين كنظام إداري يعمل على معاونة الفرد على مجابهة الأخطار التي تحيط به وبحياته وممتلكاته ودخله. يقوم بهذه الوظيفة على خير وجه بأحد طرق ثلاثة. الطريقة الأولى تعتمد على تجميع أخطار الأفراد ومواجهة خسائر الحوادث التي تتحقق بالنسبة لكل فرد عن طريق مشاركة المجموعة في تحملها. والطريقة الثانية تعتمد على تجميع أخطار الأفراد الراغبين في ذلك وفرزها وتنويعها بمعرفة مؤمن متخصص في هذه العملية مما يؤدي إلى العمل على تقليل الخسارة ما أمكن ويقوم هو بتعويض كل فرد تتحقق لديه خسارة في نظير أن يقوم الفرد المستأمن بدفع القسط. والطريقة الثالثة تعتمد على تدخل طرف ثالث لمعاونة أحد الطرفين المتعاقدين أو كلبهما ويكون ذلك عادة في سبيل المعاونة في دفع القسط أو دفع التعويض، وخاصة إذا كان الخطر يمثل عبئا ثقيلا على أفراد المجتمع عامة أو على فئة منتجة من فئاته.

وقد اصطلح كتّاب التأمين على تسمية النوع الأول من التأمين بالتأمين التعاوني أو التأمين التبادلي Mutual Insurance. وتسمية النوع الثاني بالتأمين التجاري أو Gommercial Insurance. وتسمية النوع الأخير بالتأمين الاجتماعي أو Social Insurance.

وفيما يلي شرحًا مختصرًا للأنواع الثلاثة المذكورة للتأمين:

التأمين التعاوني أو التبادلي

ارتبطت فكرة التأمين أول ما ظهرت بنظرية التعاون، إذ أن أعضاء المجتمع الاقتصادي معرضون جميعهم لأخطار عدة تصيب رؤوس أموالهم ودخلهم في أي من مراحلها المختلفة، فتعوق المجتمع عامة والأفراد خاصة عن استثمار رأس مالهم بطريقة يؤمنون عواقبها. وقد استدعت سيطرة ظاهرة عدم التأكد هذه إلى تعاون أفراد المجتمع في تحمل عبء الناتج المادي من الخسارة، وذلك عن طريق جمع الأعضاء في اتفاقية يترتب عليها أن يقوم الأعضاء بتعويض من يصيبه ضياع أو نقص في رأس ماله أو دخله. وعلى ذلك فإن العضو المستأمن في الجماعة يطلب الضمان من غيره من الأعضاء، وفي نفس الوقت يضمن هو – مع باقي أفراد الجماعة – الأعضاء الآخرين أخطار هم. ولذلك يطلق على عملية التأمين التعاوني عادة لفظ التأمين التبادلي، بمعنى أن أفراد الجماعة يتبادلون التأمين على أخطار بعضهم البعض.

وهناك نوعان مختلفان من التأمين التبادلي، يختلف الواحد عن الآخر باختلاف طريقة دفع كل عضو من أعضاء الجماعة نصيبه في الخسارة التي تنتج خلال مدة التأمين. نذكرهما باختصار فيما يلي:

التأمين التبادلي ذو الحصص البحتة

التأمين التبادلي ذو الحصص البحتة أو بالإنجليزية Pure Assessment Mutual Insurance. وفيه ينضم الأفراد الذين يتعرضون إلى خطر معين متشابه إلى هيئة أو جمعية بقصد معاونة بعضهم البعض في اقتسام الخسارة المالية التي تقع لأي منهم خلال مدة الاتفاق، بدون أن يدفع العضو أي أقساط أو مبالغ عن الانضمام للهيئة إلا ما يستوجب أثناء الجمعية من نفقات تدفع في صورة اشتراك عضوية.

التأمين التبادلي ذو الأقساط المقدمة

التأمين التبادلي ذو الأقساط المقدمة أو بالإنجليزية Advance – Premium Mutuel Insurance. وفيه يقوم كل من أعضاء الجماعة بسداد القسط مقدمًا عند الانضمام، على أساس أن دفع القسط مقدمًا يسهل على الجماعة سداد التعويض للأعضاء بمجرد حدوث أو وقوع الحادث وتحقق الخسارة. وفي نهاية مدة التعاقد تقفل حسابات الجماعة ويرد إلى كل عضو ما تبقى له من القسط المدفوع مقدمًا إذا كان أكثر من نصيبه في الخسارة، أو يطلب منه قسطًا إضافيًا إذا ثبت أن القسط المدفوع مقدمًا كان غير كاف.

التأمين التجاري

يعتمد التأمين التجاري على محاولة استعمال الطرق العلمية من رياضية وإحصائية للعمل على تقليل الخطر والحوادث التي تتحقق نتيجة وجوده، وما يترتب على ذلك من خسارة مالية. وكما سبق أن أشرنا في أكثر من موضع أن هذا يمكن الوصول إليه عن طريق تجميع وتنويع وفرز وحدات الخطر المتشابهة. ولا يمكن القيام بمثل هذا التجميع والتنويع والفرز لوحدات الخطر إلا بفصل شخصية المستأمن عن شخصية المؤمن، ثم نقل عبء الخسارة من الأول إلى الأخير، في نظير أن يقوم الأول بدفع قسط الخطر أو قسط التأمين أي تكلفة الخطر إلى الأخير.

وهذا الانفصال يساعد المستأمن على حرية اختيار المؤمن الذي يرتاح له ويوافق على شروط تأمينه وقسطه. كما يساعد هذا أيضًا المؤمن على حرية اتباع الطرق العلمية في عملية تجميع الأخطار وتنويعها وفرزها ويؤدي كل ذلك إلى تمكنه من قبول وحدات الخطر الجيدة ورفض وحدات الخطر الرديئة. ورفض وحدات الخطر الرديئة أساس هام بالنسبة للمؤمن حيث أن مثل هذه الوحدات هي التي تنهال عليه طالبة التأمين، أما وحدات الخطر الجيدة فهي دائما تهرب من التأمين، إذ يلجأ أصحابها إلى وسائل أخرى من أجل إدارة الأخطار تكون أقل تكلفة منه. وهذه الظاهرة الأخيرة يطلق عليها ظاهرة الأخطار الرديئة أو الاختيار السلبي Adverse Selection.

ويؤدى الانفصال بين شخصية المستأمن والمؤمن إلى ضرورة ظهور عائد يغري الأخير بالقيام بعملية التأمين في صورة ربح يحققه من الأقساط المحصلة من الأفراد أو جماعات المستأمنين. وعلى ذلك يكون دائمًا من سمات التأمين التجاري حساب القسط بطريقة يتوفر فيها وجود ربح كاف للمؤمن.

التأمين الاجتماعي

يحدث أن تكون وحدات الخطر ذات تأثير كبير على فئة من الأشخاص الآخرين إلى جانب تأثيرها على أصحابها. كما يحدث أن يكون لها تأثير كبير أيضًا على الاقتصاد القومي، أو الحياة الاجتماعية للمجتمع. في مثل هذه الحالات يكون من المستحيل على المشروعات أو الأفراد أصحاب وحدات الخطر هذه أن يقوموا بتحمل تكلفتها عن طريق دفع أقساط التأمين بمفردهم. يترتب على ذلك أن تقوم هيئة أو فئة أو الحكومة نفسها بمساعدة هؤلاء في دفع أقساط التأمين اللازمة لتغطية هذه الأخطار الاجتماعية. فإذا توافرت كل هذه الظواهر في التأمين وأهميته والمعاونة في دفع قسطه أطلق عليه تأمين اجتماعي أو Social Insurance.

وتظهر أهمية التأمينات الاجتماعية عندما تظهر النظرية الاقتصادية بوضوح حق العامل في حياة مطمئنة سعيدة بين أعضاء المجتمع سواء كان في سن العمل أو الشيخوخة أو في أي حالة أخرى تمنعه عن العمل. وتنشأ التأمينات الاجتماعية في المجتمعات الرأسمالية عن طريق وضع تشريعات تجبر صاحب العمل على معاونة العامل عن طريق المشاركة في دفع قسط التأمين الذي يعقد على شكل تأمين تجاري. وتتضح معالم التأمينات الاجتماعية أكثر وأكثر في المجتمعات الاشتراكية عن طريق إنشاء هيئات خاصة تقوم بعمل هذه التأمينات إجبارية لجميع العاملين مع المشاركة في دفع القسط الخاص بها أيضًا. وبالرغم من اختلاف طرق عمل التأمينات الاجتماعية والهيئات التي تقوم بها في الدول الرأسمالية والدول الاشتراكية، إلا أن اهتمام الحكومات بها يجعل طبيعتها واحدة لا تتغير من نظام اقتصادي إلى نظام آخر إلا بقدر المزايا التي تعود على المنتفعين منها.

وهذه الطريقة في تقسيم التأمين تفيد في معرفة طبيعة العملية التأمينية من ناحية، وطبيعة قسط التأمين وطريقة سداده من ناحية أخرى. وهذان العاملان يؤثران بدورهما في مدى نجاح وانتشار كل نوع من أنواع التأمين المختلفة في قسم دون آخر.

ملاحظة على التقسيم العملي

إن التقسيمات العملية السابق ذكرها لا يمكن أن تؤخذ مأخذ الثبات وخاصة بالنسبة لأنواع التأمين التي تدخل ضمن كل تقسيم. فالتطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات والأفراد والمشروعات يترتب عليه نقل بعض أنواع التأمين من قسم إلى آخر. فكثير من تأمينات الأشخاص التجارية تنتقل إلى تأمينات اجتماعية لخدمة بعض أفراد المجتمع. ومعظم التأمينات التبادلية تشترك مع التأمينات التجارية والتأمينات الاجتماعية في طبيعتها وفي مسمياتها. وربما يوضح لنا دراسة نشأة وتطور التأمين في العالم وفي مصر مدى هذا التحول من حقبة إلى أخرى.

نشأة التأمين وتطوره

نشأ التأمين قديمًا مع ظهور فكرة التعاون، ثم تطور بتطور حياة الإنسان إلى أن وصل إلى الصورة التي يظهر عليها في العصر الحديث. فالتاريخ المسطور على جدران معبد الأقصر بالوجه القبلي بمصر يذكر أن قدماء المصريين كونوا جمعيات لدفن الموتى منذ آلاف السنين. وقد دعاهم إلى ذلك اعتقادهم في حياة أخرى بشرط الاحتفاظ بأجسادهم سليمة بعد موتهم كما كانت من قبل حتى يتسنى للروح أن تعود إلى الجسد عند القيامة. وقد استدعى اعتقادهم هذا إنفاق مصاريف باهظة عندما كانت تحدث الوفاة وقبلها بغرض التحنيط وبناء القبور المستحكمة.

وأنشئت جمعيات تقوم بهذه المراسم للأعضاء الذين يعجز ذووهم عن الإنفاق عليهم عند موتهم، وذلك نظير قيام الأعضاء بدفع اشتراك سنوي للجمعية أثناء حياتهم في نظير ضمان المصروفات اللازمة للتحنيط والدفن عند الوفاة. ويظهر التعاقد جليًا بين الشخص العضو وجماعة دفن الموتى، وذلك لأن الأول يدفع قسطًا في صورة اشتراك سنوي أو كل موسم زراعي للجمعية، في سبيل أن تقوم الجمعية بالإنفاق على عملية الدفن بقصد حفظ الجسم للحياة الأخرى. هذا ولا شك هو نظام تأميني فني موضوعه مصاريف الحياة الأخرى بدلا من مصاريف الحياة الأولى التي يهتم أفراد المجتمع بتأمينها في عصرنا الحالي.

ويذكر ابن خلدون في مقدمته أن العرب عرفوا تأمينات الممتلكات في أكثر من صورة من صوره المتعددة. ففي رحلتي الشتاء والصيف كان أعضاء القافلة يتفقون فيما بينهم على تعويض من ينفق له جمل أثناء الرحلة من أرباح التجارة الناتجة عن الرحلة. وذلك بأن يدفع كل عضو نصيبًا بنسبة ما حققه من أرباح أو بنسبة رأسماله في الرحلة حسب الأحوال. كما كانوا يتفقون أيضًا على تعويض من تبور تجارته منهم نتيجة نفوق جمله بنفس الطريقة السابقة.

التأمين البحري أقدم أنواع التأمين

ويعتبر التأمين البحري أقدم أنواع التأمينات جميعًا، إذ يجمع المؤرخون أن التجار قد مارسوا هذا التأمين منذ أكثر من سبعمائة عام حتى الآن.

وبالرغم من هذا التحديد فإنهم يختلفون في تحديد تاريخ ظهوره على وجه الدقة، وعلى المكان الذي ظهر فيه لأول مرة. وأخيرًا على جنسية مخترعيه ومستعمليه لأول مرة أيضًا.

ويذكر المؤرخ فيلاني، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلاد، أن التأمين على المنقولات المشحونة بالسفن بقصد تعويض الخسارة التي تنتج عن أخطار البحار ظهر أول ما ظهر في لمباردیا عام ۱۱۸۲ ميلادية. ويقول بعض المؤرخين أن تأمينات الحياة ظهرت – بشكل محدود وعلى حياة ربان السفينة وعمد ملاحها – مع ظهور التأمين البحري.

ظهور التأمين على الحياة

وأول وثيقة تأمين على الحياة وجدت مكتوبة هي تلك المسجلة في لندن في عام 1583 ميلادية وهي تؤمن حياة شخص يدعى وليم جيبونز. وقد عقد هذا التأمين لصالح أحد المحامين ويدعى ريتشارد مارتن بمبلغ تأمين قدره ثلاثمائة وثلاثة وثمانون جنيه إسترليني.

وظهرت أهمية تأمين الحريق وزاد الاهتمام به عقب حريق لندن عام 1966. فقد أتى الحريق على معظم مباني لندن ودمر أصولاً وممتلكات قدرت في ذلك الحين بأكثر من عشرة ملايين جنيه إسترليني.

أما تأمينات الحوادث الشخصية فإنها ازدهرت وظهرت أهميتها بمجرد ظهور القطارات والسيارات والطائرات كأدوات لنقل الإنسان من مكان إلى آخر. كذلك زادت تلك التأمينات أهمية بظهور واستعمال الآلات المعقدة في المصانع والمنازل. ويمكن تحديد نهاية النصف الأول للقرن التاسع عشر كبداية للاهتمام بتأمينات الحوادث الشخصية. وفي بداية القرن العشرين وضح الاهتمام بتأمين أدوات النقل نفسها من أخطار التصادم والضياع والسرقة والحريق، وخاصة بالنسبة للسيارات والطائرات، إذ أن الاهتمام بالسفينة كان قد أخذ مكانًا مرموقًا منذ عرف التأمين البحري قديمًا.

نشأة التأمين في مصر

لم يعرف التأمين سبيله إلى أفراد المجتمع المصري حتى القرن التاسع عشر نتيجة عوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية متعددة. وعندما عرف الغربيون طريقهم إلى استغلال اقتصاديات مصر، دخلت معظم أنواع التأمينات مصر لتخدم أفراد الجاليات الأجنبية وتصون لهم ممتلكاتهم ورؤوس أموالهم. وكان للنجاح الذي حققه الأجانب في الميدان الاقتصادي والاجتماعي في مصر أثر طيب على طلب التأمين، مما ترتب عليه نشاط تأميني ملحوظ في السوق المصرية في القرن التاسع عشر بالرغم من حداثة عهده به.

وظهرت عوامل عدة تضافرت للتقليل من شأن التأمين عامة والتأمين على الحياة على وجه الخصوص لدى أفراد المجتمع المصري في ذلك الحين. فأعمال التأمين كانت تظهر أمام الوطنيين وكأنها خدمة أجنبية، مخصصة للأجانب المستغلين، تقدمها أيد أو شركات أو توكيلات أجنبية. أضف إلى ذلك أن مستويات دخول الوطنيين كانت منخفضة خاصة بالنسبة لعامة الشعب، ما كان لا يساعد على شراء أي نوع من أنواع التأمينات. أضف إلى كل ذلك أنه ظهر من الكتاب الوطنيين في مصر من أرادوا محاربة الاستعمار الاقتصادي عن طريق تشجيع أفراد المجتمع المصري على الإحجام عن شراء منتجات أو خدمات المستعمر. ولذلك قاموا بحملة واسعة من حملات التشكيك في شرعية التأمين كوسيلة اقتصادية لدرء الخطر.

وقد تنبه رجال التأمين الأجانب الذين كانوا يعملون في مصر في ذلك الوقت إلى أهمية الشرع وتأثيره في نفوس أفراد الشعب المصري، فأرسل المستر “هول راسل” مدير شركة تأمين الحياة التبادلي الأمريكية في مصر عام 1903سؤاله المشهور إلى الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية آنذاك والذي يقول فيه:

رسالة هول راسل إلى الشيخ محمد عبده:

“ما رأيكم دام فضلكم في رجل يريد أن يتعاقد مع جماعة (شركة جريشام مثلا) على أن يدفع لهم مالاً من ماله الخاص على أقساط معينة ليعملوا فيه بالتجارة، واشترط معهم على أنه إذا قام بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك المال وكان حيًا، فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح. فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيدًا لأربابه بما ينتجه من الربح جائز شرعا؟ نرجوكم التكرم بالإفادة”.

رسالة هول راسل إلى الشيخ محمد عبده

وقد أجاب الشيخ محمد عبده على السؤال بالفتوى الصادرة بتاريخ 29 أبريل عام 1903 والمسجلة تحت رقم 137 فتاوي جزء 3 ونصها كالآتي:

“لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصيغة المذكورة، فإن ذلك يكون جائزا شرعًا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط أو العمل في المال وحصول الربح أن يأخذ – لو كان حيًا – ما يكون له من المال مع ما خصه من الربح. وكذلك يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته، أو لمن له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح. والله أعلم”.

وقد أصبحت فتوى الشيخ محمد عبده هذه بداية تاريخ حديث للتأمين والوعي التأميني في مصر. فمنذ ذلك الحين أخذت جميع أنواع التأمينات تعرف طريقها إلى الجمهور، خاصة إلى أولئك الذين يملكون أصولاً تتطلب التأمين عليها ودخولاً تمكنهم من دفع أقساط هذه التأمينات.

تطور سوق التأمين التجاري في مصر

بالرغم من أن مصر القديمة قدمت للعالم صورة واضحة المعالم من صور التأمين عامة والتأمين على الحياة الأخرى على وجه الخصوص، إلا أن التأمين الحديث لم ينتشر بين المصريين إلا في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فقد أدت ظاهرة انتشار الوعي التأميني لدى المصريين وتفهمهم لفكرة التأمين وضرورته للحياة الخاصة وللمشروعات التجارية والصناعية إلى إنشاء شركات التأمين المساهمة. وقد شهد مطلع القرن العشرين ظهور عدة شركات نمت وكبرت في ظروف اختلفت من حقبة إلى أخرى.

فقد قام البنك الأهلي المصري في التاسع والعشرين من مايو عام 1900 بتأسيس شركة التأمين الأهلية المصرية وجعل مقرها الرئيسي مدينة الإسكندرية التي كانت في ذلك الوقت العاصمة التجارية للبلاد. وفي عام 1932 كونت شركة فرعية أطلقت عليها شركة التأمين الأهلية لممارسة أعمال تأمينات الحياة التي لم تمارسها الشركة الأم من قبل. أما في عام 1949 تم إدماج الشركتين معًا.

وفي الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1928 تأسست شركة إسكندرية للتأمين، ثم أعقب ذلك تأسيس شركة الشرق للتأمين عام 1931 وفي الرابع عشر من شهر يناير 1934 قام بنك مصر بتأسيس شركة مصر لعموم التأمينات والتي تغير اسمها عام 1946 إلى شركة مصر للتأمين. وفي عام 1929 تأسست شركة التوفير المصرية، وفي عام 1939 قامت شركة إسكندرية للتأمين على الحياة.

سوق التأمين بعد الحرب العالمية الثانية

وقد أعقب الحرب العالمية الثانية نهضة تأمينية ملحوظة، إذ تأسست شركتي الادخار والتأمينات التجارية عام 1946، وفي عام 1947 تأسست شركتي النيل للتأمين والاقتصاد الشعبي، وفي عام 1951 تأسست شركة التأمينات المصرية، وفي عام 1955 تأسست شركة القاهرة للتأمين.

ونتيجة للعدوان الثلاثي على مصر في أواخر عام 1956 تقرر محو الشركات البريطانية والفرنسية والأسترالية التي كانت تعمل في سوق التأمين المصرية في ذلك الوقت من سجل هيئات التأمين في مصر باعتبار أنها من أموال الأعداء. وكان من نتائج هذه الإجراءات أن أنشئت عام ۱۹۵۷ الشركة المتحدة للتأمين لتحل محل شركة الأنيون الفرنسية، وشركة الجمهورية للتأمين لتحل محل ثلاث شركات إنجليزية وفرنسية أخرى. كما أنشئت في نفس العام الشركة المصرية لإعادة للتأمين والتي بدأت في ممارسة أعمالها في أول يناير عام 1958.

وتم تأميم جميع شركات التأمين وأيلولة ملكيتها للدولة عام 1961، وقد ترتب على ذلك قيام المؤسسة المصرية العامة للتأمين في السادس عشر من ديسمبر عام ۱۹6۱. وقد أنشئت المؤسسة بغرض الإشراف على تخطيط وتوجيه قطاع التأمين والشركات التي تعمل به. كما قد عمدت المؤسسة منذ نشأتها إلى اعتناق مبدأ إدماج شركات التأمين في السوق المصرية في بعضها البعض. ومارست تطبيق هذا المبدأ على أكثر من مرحلة ما نتج عنه إدماج الشركات التي كانت موجودة في ثلاث شركات فقط: التأمين الأهلية والشرق ومصر، بالإضافة إلى شركة إعادة التأمين الوحيدة وهي الشركة المصرية لإعادة التأمين.

تطور التأمينات الاجتماعية في مصر

تأمينات موظفي الحكومة

عرفت مصر التأمينات الاجتماعية بأنواعها المختلفة على مراحل عدة ومنذ زمن طويل. فقد مارس موظفو الحكومة المصرية نظام المعاشات منذ أوائل القرن العشرين. وكان المعاش وقتئذ يمنح لبعض كبار الموظفين بغير نسب ثابتة أو ميعاد محدد. وتطور النظام سنة بعد أخرى وزادت معاشات الموظفين لدرجة أن تضخمت أعباء المعاشات وأصبحت أكثر مما تتحمله الموارد المالية للحكومة ما ترتب عليه أن صدر قرار مجلس الوزراء عام 1935 بإيقاف نظام المعاشات على الموظفين الجدد وجعل التعيين في الوظائف الجديدة بصفة مؤقتة بعقود قابلة للتجديد. وفي عام 1952 ونتيجة لاستمرار إيقاف سريان نظام المعاشات أنشأت الحكومة صندوق التأمين وآخر للمعاشات. وفي عام 1956 أعادت الحكومة نظام المعاشات ليشمل معظم موظفي الحكومة مع إضافة كثير من الامتيازات التي لم تكن موجودة من قبل. أما في عام 1960 وعام 1963 أعيد النظر في نظام المعاشات لكي يشمل جميع فئات العاملين في الدولة.

تأمينات العمال الصناعيين

أما بالنسبة للعمال الصناعيين وغيرهم ممن يعملون خارج الأعمال الحكومية فقد عرفوا نظام التأمينات الاجتماعية أول ما عرفوها في صورة تأمينات إصابات العمل عام 1936. وفي عام 1942 ظهر قانون التأمين الإجباري من حوادث العمل وأخطار المهنة، وفي عام 1955 تم إنشاء صندوق التأمين وصندوق الادخار على غرار ما تم عمله لموظفي الحكومة. وفي عام 1959 صدر قانون بشأن التأمين من إصابات العمل والشيخوخة والعجز والوفاة. وأخيرًا صدر القانون رقم 13 لسنة 1964 بشأن التأمينات الاجتماعية ليحل محل جميع القوانين السالفة الذكر، وقد استحدث أنواعًا جديدة في التأمينات الاجتماعية مثل تأمين البطالة والتأمين الصحي بالإضافة إلى تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة وإصابات العمل.

واهتم المشرع المصري بالرعاية الصحية والطبية للعمال الصناعيين منذ صدور أول قانون العقد العمل الفردي عام 1949، وقد نظم هذه الرعاية بدرجة أكثر قانون العمل الصادر عام 1959، إذ قرر حق العامل في العلاج على نفقة صاحب العمل. كما قرر حق العامل في جزء من أجره أثناء مرضه وفي الأجر بالكامل في حالة الإصابة بمرض مزمن. وفي عام 1964 أنشئت الهيئة العامة للتأمين الصحي لتتولى الخدمة والرعاية الصحية والطبية بالنسبة للعاملين في القطاعين العام والخاص والقطاع الحكومي.

وقد زاد اهتمام الدولة أكثر وأكثر بالتأمينات الاجتماعية بأنواعها المختلفة نظرًا لزيادة الاهتمام بالتقدم والنمو الصناعي والاجتماعي من ناحية، والسير في طريق الاشتراكية آنذاك من ناحية أخرى.

المصدر

  • كتاب الخطر والتأمين – الأصول العلمية والعملية. تأليف: الدكتور سلامة عبد الله، كلية التجارة، جامعة القاهرة، 1967، 1974.
  • موسوعة التأمين، العلوم المالية والمصرفية، مركز البحوث والدراسات متعدد التخصصات، 2023.
error:
Scroll to Top