الوقوف عن الدفع في نظام الإفلاس – تعريفه وعناصره

ملخص المحتوى

الوقوف عن الدفع في نظام الإفلاس في القانون المصري – المقصود به وعناصره الأساسية – العنصر المادي والعنصر المعنوي – إثبات الوقوف عن الدفع.

المقصود بـ الوقوف عن الدفع

أورد المشرّع المصري الوقوف عن الدفع في المادة 195 في قانون التجارة المصري القديم.

حيث نصت على:

“كل تاجر وقف عن دفع ديونه يُعتبر في حالة إفلاس..”.

وكان الرأي قد انقسم في تفسير المقصود بالوقوف عن الدفع إلى اتجاهين:

الاتجاه الأول

ويرى أن المقصود بالوقوف عن الدفع مجرد امتناع المدين عن دفع ديونه دون الاعتداد بأسباب هذا الامتناع.

أي دون الاعتداد بما إذا كان سبب هذا الامتناع هو عجز المدين فعلا أو مجرد عناده.

وترتيبًا على ما تقدم، فإن الوقوف عن الدفع في نظر هذا الاتجاه ليس إلاّ موقف أو سلوك اتخذه المدين، هو الامتناع عن دفع ما عليه. ونظرًا لأن الديون التجارية، بل والحياة التجارية عمومًا تتسم بتشابك العلاقات، من حيث أن عدم وفاء المدين بما عليه قد يترتب عليه عدم وفاء مدين أو مدينين آخرين بما عليهم، لهذا يتعين الاعتداد بالتوقف عن الدفع بشكل مجرد، أي دون الاعتداد بالأسباب التي دفعت إليه أو كانت وراءه. ولقد عبرت بعض الأحكام القديمة عن هذا الاتجاه فقالت “إن الوقوف عن الدفع المقصود في المادة 195 تجاري إنما هو الحالة التي تجعل التاجر في الحال والظاهر إما غير قادر ماديًا على الوقاء بديونه الحالة، وإما برغم قدرته على وفاء هذه الديون فهو ممتنع عن ذلك لسبب غير قانوني.

فمجرد ثبوت واقعة عدم وفاء التاجر لديونه هذه يكون متوقفًا عن الدفع بالمعنى المقصود قانونًا.

الاتجاه الثاني

وعلى عكس الاتجاه الأول، اتجه راي آخر استحوذ على أكثرية الفقه وأحكام القضاء ربط بين فكرة الوقوف عن الدفع وبين المركز المالي للمدين. فالوقوف عن الدفع هو الذي ينبئ عن مركز مالي مضطرب. أما مجرد الامتناع عن الدفع مع سلامة المركز المالي للمدين وقدرته على الوفاء، فلا يعتبر وقوفًا عن دفع الديون بالمعنى المقصود قانونًا.

وقد عبرت عن هذا الاتجاه الأخير محكمة النقض المصرية في العديد من أحكامها.

ففي حكم لها سنة 1956 قالت:

“إن التوقف عن الدفع المقصود في المادة 195 تجاري هو الذي ينبئ عن مركز مالي مضطرب وضائقة مستحكمة يتزعزع معها ائتمان التاجر وتتعرض بها حقوق دائنيه إلى خطر محقق أو كبير الاحتمال، ولئن كان امتناع المدين عن الدفع دون أن تكون لديه أسباب مشروعة يُعتبر قرينة في غير مصلحته إلاّ أنه قد لا يُعتبر توقفًا عن الدفع بالمعنى السابق بيانه. إذ قد يكون مرجع هذا الامتناع عذرًا طرأ عليه مع اقتداره على الدفع.”

الوقوف عن الدفع في ظل القانون التجاري المصري الجديد

يرى الأستاذ الدكتور ناجي عبد المؤمن، أن المشرع قد تبنى الاتجاه الثاني في قانون التجارة الجديد صراحة، بحيث لم يعد للخلاف المتقدم محل. ويبدو ذلك جليًا في صياغة نص المادة 550 والمادة 699 من قانون التجارة المصري الجديد..

فالنص الأول يعتبر التاجر الفرد في حالة إفلاس إذا توقف عن دفع ديونه التجارية إثر اضطراب أعماله المالية.

وبالمثل، اعتبر النص الثاني الشركة في حالة إفلاس إذا توقفت عن دفع ديونها إثر اضطراب أعمالها المالية.

والواضح من صياغة النصين المتقدمين أن المشرع قد ربط بين التوقف عن الدفع والمركز المالي للمدين فاشترط أن يكون الوقوف عن الدفع أو الامتناع عن الدفع إثر اضطراب في أعمال المدين المالية.

وهكذا تتحدد فكرة الوقوف عن الدفع في ظل قانون التجارة الجديد بعنصرين وهما:

  • عنصر مادي
  • عنصر معنوي

عنصرا الوقوف عن الدفع

العنصر الأول: الوقوف المادي أو الامتناع عن دفع الديون

والمقصود من هذا العنصر أن يتوقف المدين فعلا عن دفع ما عليه من ديون.

ولا يثير هذا الامتناع المادي كثير مشاكل اللهم إلاّ في الحالة التي يكون فيها الدين التاجر في حالة مادية مضطربة ولكنه يلجأ إلى وسائل غير مشروعة، كتحرير كمبيالات مجاملة أو الاقتراض بسعر فائدة مرتفعة لإخفاء وضعه المالي، والتساؤل هنا:

  • هل يجوز في مثل هذه الأحوال شهر إفلاسه على اعتبار انهيار مركزه المالي؟
  • أم لا يجوز ذلك لأن المهم أنه يفي بديونه في مواعيدها؟

لقد ذهب بعض الفقه ردًا على ذلك القول بأن المدين إذا استعان في الوفاء بالالتجاء إلى الغش أو إلى طرق غير مشروعة مثل:

  • سحب كمبيالات المجاملة، أو
  • شراء البضائع وبيعها بأقل من سعر الشراء من أجل الحصول على المال اللازم

فإنه يكون للمحكمة في هذه الأحوال أن تعتبره في حالة وقوف عن الدفع وتقضي بشهر إفلاسه حتى تفسد عليه غشه.

ويرى الأستاذ الدكتور ناجي عبد المؤمن أنه:

لا يجوز شهر إفلاس التاجر في هذه الأحوال، على اعتبار أنه ليس هناك وقوف مادي عن الدفع، وهو أول عناصر فكرة الوقوف عن الدفع وأهمها.

وبمعنى آخر فطالما أن المدين قد قام بالوفاء بما عليه فلا يجوز إشهار إفلاسه بحجة أنه لجأ إلى مسائل غير مشروعة، ذلك أن أحكام الإفلاس لم تُشرع لمحاسبة المدين على الأسلوب الذي انتهجه في الوفاء بما عليه ولكنها شُرعت لتنظيم الآثار الناجمة عن توقفه عن الدفع. كما أن ما يهم الدائن عملا هو الحصول على دينه، وطالما حصل على هذا الدين فلن يكون له مصلحة فعلية في طلب شهر إفلاس مدينه استنادًا إلى أن وفاءه له كان بأساليب غير مشروعة.

الوقوف عن الدفع وفترة الريبة

على أن ذلك لا يعني أن التساؤل حول استخدام المدين لأساليب غير مشروعة لإخفاء مركزه المالي ليس له أهمية.

نعم تقل أهمية هذا التساؤل تمامًا عند بحث شروط الإفلاس، ولكنها تتعاظم عند الحديث عن فترة الريبة.

فترة الريبة هي الفترة الواقعة بين الوقوف عن الدفع وبين الحكم الصادر بشهر الإفلاس.

فهنا يُثار التساؤل حول حق المحكمة في الرجوع بتاريخ التوقف عن الدفع إلى التاريخ الحقيقي الذي انهار فيه المركز المالي للمدين؟

أم أنها تعتد فقط عند احتساب هذا التاريخ بوقت الوقوف الفعلي عن الدفع دونما عبرة بالمدة التي أخفاها بالوسائل غير المشروعة؟

ويُفضل الأستاذ الدكتور ناجي عبد المؤمن أن على المحكمة أن تعتد بتاريخ الوقوف الفعلي عن الدفع وليس عليها البحث عن فترات سابقة بحجة أن المدين كان قد أخفى فيها مركزه المالي المضطرب بوسائل غير مشروعة.

وذلك للأسباب الآتية:

السبب الأول:

لأنه بدون الوقوف الفعلي عن الدفع فإن فكرة الوقوف عن الدفع بمعناها القانوني تفقد جوهرها.

السبب الثاني:

أنه ليس من المصلحة الارتداد كثيرًا بتاريخ الوقوف عن الدفع في تحديد فترة الريبة.

والسبب هو حفاظًا على المراكز التي استقرت والحقوق التي اكتسبت.

ومع ذلك فقد جاء قانون التجارة المصري الجديد بنص المادة 562/3 يُستفاد منه ضمنيًا أن المحكمة لا تعتد فقط في تحديد تاريخ الوقوف عن الدفع بوقت الوقوف الفعلي دونما عبرة بالمدة التي أخفاها المدين بوسائل غير مشروعة، وفي هذا تقول المادة 562/3 ” تستعين المحكمة في تعيين تاريخ التوقف عن الدفع بكل فعل أو قول أو تصرف يصدر من المدين ويكشف عن اضطراب أعماله أو سعيه إلى الاستمرار في نشاطه لتجاري بوسائل غير مشروعة أو ضارة بدائنيه..”

العنصر الثاني: اضطراب الأعمال المالية للمدين

لم يجز المشرع في قانون التجارة المصري الجديد شهر الإفلاس لمجرد توقف المدين التاجر عن دفع ديونه، ولكنه اشترط أن يكون هذا التوقف إثر اضطراب أعماله المالية، غير أن المشرع لم يبين، لا في المادة 550 ولا في المادة 699 ولا في غيرهما من النصوص المقصود باضطراب الأعمال المالية، والواقع أن اضطراب الأعمال المالية عبارة فضفاضة، حيث أن حياة التاجر المالية لا تسير دائمًا على وتيرة واحدة، فهي اليوم مستقرة وغدًا مضطربة وبعده في حالة انتعاش.. وهكذا.

ولا يظن الأستاذ الدكتور أن مجرد الاضطراب يُعد بذاته سببًا لشهر الإفلاس، وإنما يتعين في رأيه ربط هذه الفكرة بفلسفة نظام الإفلاس وأهدافه الأساسية ككل، فالإفلاس هو أولا وأخيرًا أحد الأدوات القانونية لضبط السوق، يحافظ على حقوق الدائنين ويشيع الثقة بين المتعاملين بالتجارة، ولهذا فالاضطربا المقصود هو الذي يهدد حقوق الدائنين بالخطر ويخل بالثقة في المدين ويزيعزع ائتمانه أما الاضطراب المؤقت فلا يُعد سببًا لشهر الإفلاس.

ومن هنا فليست هناك علاقة بين اضطراب أعمال المدين وبين عدد الديون التي توقف عن دفعها:

فقد يتوقف عن دين واحد ويكون ذلك معبرًا عن اضطراب أحواله المالية.

وعلى العكس:

فقد يتوقف عن دفع أكثر من دين ولكن ذلك لا ينبئ عن اضطراب في أحواله المالية.

فلهذا فإنه يكون على محكمة الإفلاس أن تتحرى الدقة وأن تزن كل حالة على حدة، وليكن رائدها في ذلك أمرين:

الأمر الأول:

أن تفليس التاجر هو أمر غاية في الخطورة، ويترتب عليه آثار خطيرة بالنسبة له.

الأمر الثاني:

أن نظام الإفلاس هو أهم أدوات ضبط السوق وتفليس التاجر الذي توقف عن دفع ديونه وعرض حقوق دائنيه للخطر هو بذاته مصدر لإشاعة الثقة فيما بين المتعاملين.

المسألة إذن تحتاج من القاضي إلى حس مرهف يستطيع من خلاله أن يفرق بين الاضطراب في أحوال المدين المالية الذي يعتبر أمرًا طارئًا مألوفًا في عالم التجارة، لم يخل بائتمان التاجر وثقة المتعاملين معه، وبين ذلك الذي تنهار به هذه الثقة وتتعرض معه حقوق الدائنين للخطر. والأمر في كل ذلك متروك لمحكمة الإفلاس.

على أنه يجب التنويه إلى أن انهيار ائتمان التاجر الذي يستوجب شهر إفلاسه على النحو المتقدم لا يعني زيادة مديونياته على أصوله، إن محكمة الإفلاس لن تقضي بالإعسار حتى تحسب أصوله وخصومه، أنها تتصدى لمسألة شهر الإفلاس. وهذه الأخيرة شرطها الأساسي توقف المدين عن الدفع إثر اضطراب أعماله ولا علاقة لها بمسألة الأصول والخصوم.

إن ما يهم المحكمة هو ائتمان التاجر وحقوق دائنيه.

حدود الاضطراب في الأحوال المالية

يُثار التساؤل حول حدود هذا الاضطراب..

فهل يجب أن يقتصر على أعمال التاجر التجارية أم يلزم أن يكون الاضطراب عامًا شاملا لكل أعماله؟

الواقع أن نظام الإفلاس هو نظام يخص التجار، ويهدف نظام الإفلاس إلى ضبط السوق وانتظامه بإشاعة الثقة بين الدائنين.

ولا يجوز شهر الإفلاس إلا عن الديون التجارية..

لكل ذلك فإن الاضطراب المقصود هو أصلا الاضطراب في أعمال المدين التجارية.

ولعل ما يعضد هذا التفسير ما ورد في المادة 550 والمادة 699 حيث استخدمت عبارة:

.. أعماله المالية

وهي عبارة تعني الأعمال التجارية.

بل وتتجاوزها إلى كافة الأعمال التي يقوم بها التاجر ولا تدخل ضمن الأعمال التجارية بالمعنى الدقيق.

ومع ذلك فإنه من النادر ما يشهر إفلاس التاجر لاضطراب في أعماله المالية فقط، فالتاجر يحاول دائمًا البعد عن الإفلاس بكل الطرق، ولذلك فعملا يحاول التجار تغطية الاضطراب في أعماله التجارية وفي دفع ديونه التجارية بجميع ما يملك من أموال دون فصل بينما كان مصدرها هو عمل مدني أو تجاري، فلا يستسلم المدين للإفلاس عادة إلا إذا كان عجزه شاملا أو كان يملك مثلا عقارات ولكن لا يمكن بيعها بسرعة لتغطية ديونه.. إلخ.

المصدر

  • كتاب: الإفلاس والصلح الواقي منه، الجزء الأول: شروط الإفلاس وآثاره.
  • للأستاذ الدكتور: ناجي عبد المؤمن
  • عميد كلية الحقوق، جامعة عين شمس
  • رئيس قسم القانون التجاري والبحري.
الوقوف عن الدفع في نظام الإفلاس - تعريفه وعناصره
الوقوف عن الدفع في نظام الإفلاس – تعريفه وعناصره
error:
Scroll to Top