العرف الدستوري – تعريفه وبيان أركانه و أنواعه

ملخص المحتوى

تعريف العرف الدستوري – أركان العرف الدستوري: الركن المادي والركن المعنوي. أنواع العرف الدستوري: العرف المفسر، العرف المنشئ أو المكمل، والعرف المعدل بالإضافة أو الحذف. مكانة العرف الدستوري. مبررات الاعتراف بالقيمة القانونية للعرف الدستوري. العرف الدستوري في القانون المقارن، في فرنسا، في أمريكا، في مصر. الدستور العرفي والعرف الدستوري والفرق بينهما. الدستور العرفي الإنجليزي نموذجًا.

تعريف العرف الدستوري

العرف كقاعدة هو الاضطراد على اتباع سلوك معين مع الاعتقاد بإلزامية هذا السلوك:

  • فإن كان الاضطراد من جانب الأفراد كان العرف مدنيًا.
  • وإن كان من جانب الأجهزة الإدارية أو في علاقة الأفراد بالإدارة كان العرف إداريًا.
  • وإن كان بين الدول كان العرف دوليًا.
  • .. وهكذا.

أي أنه يتحدد نوع العرف بتحديد من يباشر السلوك الواجب الاتباع. وبالتالي فإن العرف الدستوري هو:

اضطراد هيئة من الهيئات الحاكمة في الدولة على مباشرة سلوك مرتبط بشأن من الشئون الدستورية، أو بشأن من شئون الحكم في المجتمع لدرجة يصبح معها هذا السلوك ملزمًا أو واجب الاتباع في كل مناسبة يعرض فيها.

هذا وتدور مختلف التعريفات التي قيل بها في هذا الخصوص حول هذا المفهوم.

فقد قيل مثلا أن العرف الدستوري عادة درجت عليها هيئة حكومية – في الشئون المتصلة بنظام الحكم – بموافقة، أو على الأقل دون معارضة، غيرها من الهيئات الحكومية ذات الشأن، ولتلك العادة (في نظر تلك الهيئات الحكومية وضميرها القانوني) ما للقواعد الدستورية – كقاعدة عامة – من جزاء. وقيل أنه ينشأ حين تجري الهيئات الحاكمة على عادة معينة في موضوع من موضوعات القانون الدستوري، ويقوم في ضمير الجماعة الإحساس بوجوب احترام هذه العادة ويستقر في ذهن أفرادها أنها أصبحت قاعدة قانونية ملزمة. وقيل أنه قاعدة مضطردة ( أو عادة ) يقصد بها تنظيم العلاقات فيما بين السلطات الحاكمة بعضها وبعض، أو فيما بينها وبين الأفراد، ويكون لها صفة الإلزام في الرأي القانوني للجماعة. كما قيل أن العرف الدستوري هو تواتر العمل وفقًا لمسلك معين في أحد الموضوعات الدستورية بحيث يكتسب هذا المسلك صفة الإلزام.

أركان العرف الدستورى

يتضح من التعريفات السابقة للعرف الدستوري أن هذا العرف يعتمد في نشأته على ضرورة توافر ركنين أساسيين، هما:

  • ركن مادي
  • ركن معنوي

أول أركان العرف الدستوري هو الركن المادي، ويتمثل في تكرار عادة متصلة بنظام الحكم في الدولة من جانب إحدى السلطات العامة. والركن المعنوي يتمثل في الاعتقاد بأن إلزامية هذه العادة أصبحت تكوّن قاعدة لها قوة ملزمة أو صفة إلزامية.

وفيما يلي شرحًا مفصلا لأركان العرف الدستوري:

الركن المادي L’element materiel

ويُقصد بهذا الركن درج إحدى السلطات العامة في الدولة على اتباع أو انتهاج أمر معين من أمور الحكم بصفة مضطردة وثابتة. فالشرط الأساسي إذن لتوافر هذا الركن يتجسد في التكرار (بالفرنسية: La Re’petition) أو الاعتياد على اتباع سلوك أو تصرف معين، سواء أكان بطريق السلب أو الإيجاب. ومع ذلك فقد ذهب البعض في الفقه إلى أنه يكفي في هذا الخصوص حدوث الفعل أو التصرف ولو لمرة واحدة أي دون تكرار. في حين ذهب البعض الآخر إلى اشتراط حدوثه مرتين على الأقل للقول بقيام الركن المادي للعرف، وهذا هو الرأي الراجح. ذلك أن حدوث الفعل أو التصرف مرة واحدة قديكون أمرًا عارضًا أو مؤقتًا ومن ثم لا يصلح أن يكون دليلا على قيام قاعدة لها القوة الملزمة أو الصفة الإلزامية، ولهذا تطلبت المحكمة العليا الفيدرالية السويسرية في حكمها الصادر عام 1971م ضرورة حدوث الفعل أو التصرف مرتين على الأقل للإقرار بوجود عرف دستوري.

ويُشترط في التكرار المؤدي إلى القول بتوافر الركن المادي الشروط الآتية:

شروط توافر الركن المادي في العرف الدستوري

الشرط الأول:

يجب أن يصدر العرف من إحدى السلطات العامة في الدولة.

أي إحدى الهيئات الحاكمة بها كالبرلمان أو رئيس الدولة أو الوزراء.. إلخ.

الشرط الثاني:

يجب أن يكون التكرار مضطردًا.

ومعنى ذلك ضرورة التزام الهيئات الحاكمة بالفعل أو التصرف كلما عرضت مناسبة اتخاذه، وذلك بما يوحي بالثبات والاستقرار. فلا تقدم عليه تلك السلطات في إحدى الحالات ثم تعرض عنه في حالات أخرى.

الشرط الثالث:

يجب أن يكون التكرار عامًا.

بمعنى أن الفعل أو التصرف يجب أن يكون مقبولا لدى السلطات أو الهيئات الحاكمة الأخرى والتي يمسها هذا الفعل أو ذلك التصرف. بحيث أنه إذا اعترضت عليه إحدى هذه الهيئات أو أبدت احتجاجًا ضده فإنه لا يرقى إلى مرتبة القاعدة الواجبة التطبيق.

الشرط الرابع:

يجب أن يكون التكرار قديمًا.

أي مضت عليه مدة أو فترة كافية تدعو إلى القول بثبات أو استقرار الفعل أو التصرف.

مع ملاحظة أن تحديد هذه المدة أو تلك الفترة مسألة اعتبارية تخضع لظروف كل حالة على حدة.

الركن المعنوي

إن تحقق الركن المادي بالصورة السابق بيانها لا يكفي في الواقع لنشوء العرف الدستوري إذ يجب بالإضافة إلى ذلك أن ينشأ الاعتقاد في ذهن الجماعة وضميرها القانوني أن الفعل أو التصرف يمثل قاعدة واجبة الاتباع، أي أنها تتسم – شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية – بقوة ملزمة أو بصفة إلزامية، وهذا هو الركن المعنوي (بالفرنسية: Le’le’ment Moral).

ولكن ما هو المقصود بالجماعة في هذا الخصوص؟

ذهب رأي إلى أن الجماعة تعني فقط السلطات الحاكمة باعتبار أن هذه السلطات هي الأقدر بحكم وظائفها على خلق أو تشيد قواعد جديدة في المجال الدستوري. بينما يذهب رأي آخر وهو الراجح إلى أن المقصود بالجماعة ليس فقط السلطات الحاكمة وإنما أيضًا مجموع أفراد الشعب أو بتعبير أكثر قانونية الرأي العام على أساس أن هذا الرأي العام يتأثر سواء بشكل مباشر أو غير مباشر بنشوء قواعد دستورية جديدة خصوصًا أن هذه القواعد تنظم العلاقة بين السلطات العامة وبعضها وكذلك بين هذه السلطات ومجموع أفراد الشعب. ويكفي لموافقة الرأي العام في هذا الصدد عدم اعتراضه على القواعد الجديدة أو بمعنى آخر يكفي اتخاذ موقفًا سلبيًا تجاهها.

أنواع العرف الدستوري

العرف الدستوري قد يكون مصدرًا أساسيًا لقواعد القانون الدستوري، وذلك كما هو الحال في الدول ذات الدساتير العرفية. وقد يكون مصدرًا احتياطيًا أو ثانويًا لهذه القواعد أي أنه يقوم جوارها إما لتفسير نص غامض بها أو لتنظيم موضوع غفلت عن تنظيمه، أو لتعديل بعض نصوص هذه الوثيقة الدستورية.

وعلى ذلك ينقسم العرف في حالة كونه مصدرًا احتياطيًا أو ثانويًا إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: العرف المُفسر La Coutume Interpretative

يقتصر أثر هذا العرف – كما يدل عليه اسمه – على مجرد تفسير أو توضيح ما قد يكون غامضًا أو مبهمًا من نصوص الوثيقة الدستورية. ومن ثم فهو لا ينشأ إلاّ إذا كان هناك نص غامض في الدستور يحتاج إلى تفسير أو توضيح. وبتفرع عن ذلك أن العرف المُفسر لا يأتي بقواعد دستورية جديدة بل يرتكز أساسًا على النص الغامض أو المبهم المدون بوثيقة الدستور محددًا كيفية تطبيق هذا النص أو كيفية العمل به.

ومن أمثلة العرف المفسر ذلك العرف الذي نشأ في ظل الدستور الفرنسي الصادر عام 1875م فقد نص هذا الدستور في مادته الثالثة على أن رئيس الجمهورية يكفل تنفيذ القوانين، دون أن يبين كيفية إعمال هذا النص، أي أنه لم يبين كيف يكفل رئيس الجمهورية تنفيذ القوانين، فنشأ العرف إلى جوار هذا النص مبينًا وموضحًا أن كفالة تنفيذ القوانين تتم عن طريق إصدار لوائح تنفيذية لها، ومن ثم أصبح من حق رئيس الجمهورية إصدار هذا النوع من اللوائح باعتبار أن هذا الحق يمثل نتيجة طبيعية لاختصاصه الدستوري بكفالة تنفيذ القانون.

النوع الثاني: العرف المنشئ أو المكمل

يوجد العرف العرف المُنشئ أو المكمل (بالفرنسية: La Coutume Comple’mentaire) في حالة ما إذا أغفل المشرع الدستوري تنظيم أمر من الأمور، أي أن هذا العرف ينشأ لخلق قواعد جديدة هدفها تنظيم الموضوعات التي لم ينظمها المشرع الدستوري، وبالتالي إكمال النقص الذي قد يوجد في النصوص الدستورية. ومن ثم فهو يختلف عن العرف المفسر في أنه لا يستند إلى نص قائم في الوثيقة الدستورية، فهو لا يوجد في الواقع إلاّ في حالة سكوت المشرع الدستوري عن تنظيم أمر معين.

مع ملاحظة أن العرف المُنشئ أو المكمل لا يوجد إلاّ في ظل دستور جامد، إذ لو كان الدستور مرنًا لأمكن إكمال ما به من نقص بالقوانين العادية دون حاجة إلى عرف دستوري. ومن أمثلة العرف المكمل نذكر القاعدة التي لا تجيز عقد قرض عمومي في فرنسا إلاّ إذا صدر قانون يجيز ذلك، فقد كانت هذه القاعدة مقررة صراحة في دستور سنة 1815م إلاّ أن الدساتير اللاحقة على هذا الدستور أغفلت النص عليها.

ومع ذلك قد استقر العمل بها وذلك بناء على عرف دستوري مكمل.

النوع الثالث: العرف المُعدل

يتشابه العرف المُعدل (بالفرنسية: La Coutume Modificatrice) والعرف المُفسر في أن كلا منهما يشنأ مستندًا إلى نص قائم في الوثيقة الدستورية، إلاّ أنهما يختلفان من حيث الهدف، إذ بينما يهدف العرف المفسر إلى تفسير أو توضيح النص الدستوري وإزالة ما به من غموض أو إبهام، نجد أن العرف المعدل يهدف إلى إضافة أحكام جديدة لا يتحملها تفسير هذا النص، وذلك كأن يقرر مثلا منح هيئة من الهيئات الحاكمة اختصاصًا جديدًا غير منصوص عليه في الوثيقة الدستورية، دون إمكانية تقرير مثل هذا الاختصاص – بطبيعة الحال – عن طريق تفسير النص الذي يحدد اختصاصات هذه الهيئة.

ومثال ذلك ما جرى عليه العمل في فرنسا من تفويض البرلمان الفرنسي السلطة التنفيذية في وضع قواعد عامة عن طريق المراسيم بقوانين. فقد كانت المادة الأولى من دستور 1875م تنص على استئثار البرلمان بالسلطة التشريعية، الأمر الذي يُفهم منه أنها تحرم على البرلمان تفويض هذه السلطة لهيئة أخرى، ومع ذلك فقد جرى العمل على قيام البرلمان بهذا التفويض.

وكما هو واضح فإن العرف المُعدل في هذه الحالة إنما هو عرف معدل بالإضافة.

أي أن دور العرف المعدل يتجسد في إضافة أحكام دستورية جديدة.

العرف الدستوري المعدل في الدساتير الجامدة

لقد ثار خلاف في الفقه حول مدى الاعتراف بوجود العرف المُعدل في ظل دستور جامد.

فقد ذهب جانب من الفقه، وهم من أنصار المذهب الشكلي في القاعدة القانونية، إلى عدم الاعتراف بإمكان نشوء مثل هذا العرف على أساس أنه لا يجوز تعديل الدستور الجامد إلاّ طبقًا للإجراءات المنصوص عليها في صلبه وبواسطة الهيئة التي أناط بها الدستور مهمة تعديله، وإلاّ فإن الضمانة المقصودة من جمود الدستور تعتبر منهارة، إضافة لما في ذلك من مخالفة صريحة لأحكام الدستور. ولذا فهم يرون أن دور العرف في هذه الحالة يجب أن يكون مقتصرًا على مجرد تفسير نصوص الوثيقة الدستورية وتحديد مدلولها، أي مقتصرًا على بيان القواعد والشروط المتعلقة بتطبيق أحكام قررتها نصوص الدستور دون أن يصل إلى حد تعديل هذه الأحكام.

بينما يرى أنصار المذهب الموضوعي بإمكان نشوء عرف معدل في كل دستور جامد مستندين في ذلك إلى أن العرف ما هو إلا تعبير عن إرادة الأمة وضميرها. وما دامت السيادة للأمة، فإنه يجب أن تعتبر هذه السلطة التأسيسية العليا التي يجوز لها أن تعدل من أحكام الدستور. وكما هو واضح فإن هذا الخلاف إنما هو خلاف فقهي نظري لا تظهر أهميته من الناحية العملية التي تعترف فعلا بوجود هذا العرف المعدل للدستور فهو أمر لا يمكن إنكاره عمليًا مهما قيل من حجج نظرية مخالفة.

العرف الدستوري المعدل بالحذف

هل يمكن أن يكون للعرف المعدل دور سلبي؟ بمعنى هل يمكن أن يكون العرف معدلا بالحذف لا بالإضافة؟ وهو ما يقال له تجاوزًا العرف الدستوري السلبي (بالفرنسية: Newgatire) أو العرف الدستوري المُلغي (بالفرنسية: Abrogatore)؟ وذلك عن طريق إسقاط حق من الحقوق أو اختصاص من الاختصاصات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية.

ذهب جانب من الفقه إلى الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. وقد استند أصحاب هذا الرأي إلى ما حدث في ظل الدستور الفرنسي الصادر عام 1875م حيث كان ينص على حق رئيس الجمهورية في حل مجلس النواب، إلاّ أن مثل هذا الحق استعمل عام 1877م ولم يستعمل بعد ذلك حتى قيام حكومة فيشي عام 1940م، فعدم استعمال هذا الحق رغم بقاء النص عليه في الدستور حتى هذا التاريخ، عني في رأي هذا الفقه نشوء عرف مُسقط لحق الحل أي نشوء عرف مُعدل بالحذف.

بينما ذهب غالبية رجال الفقه إلى عكس ذلك، والقول بعدم إمكان نشوء عرف مُعدل بالحذف. ذلك أن عدم استعمال هيئة من الهيئات أو سلطة من السلطات أحد حقوقها المقررة في الدستور لا يعني إطلاقًا سقوط هذا الحق. فاستعمال الحق يتطلب في الواقع ضرورة تحقق أو توافر شروط معينة بحيث أنه إذا لم تتحقق أو تتوافر هذه الشروط امتنع بطبيعة الحال استعمال هذا الحق، وهذا لا يعني بحال من الأحوال سقوطه مهما طال الزمن على ذلك، بل أن ممارسة أي حق من الحقوق حتى لو توافرت كافة الشروط المطلوبة لذلك إنما يتوقف في الواقع على رغبة وإرادة صاحب الحق ذاته فهو الأقدر على تقدير ملاءمة مثل هذا الاستخدام من عدمه، إضافة إلى أن حق الحل إنما هو حق أساسي في الأنظمة البرلمانية، ولا يمكن للعرف أيًا كانت قوته أن يصل إلى حد إسقاط النص الذي يقرره.

مكانة العرف الدستوري أو القيمة القانونية له

بعد أن انتشرت ظاهرة الدساتير المدونة أو المكتوبة في كافة دول العالم تقريبًا، لم يعد للعرف الدستوري ذات المكانة التي كانت له إبان سيادة الدساتير العرفية، فقد تقهقر دوره في واقع الأمر ليصبح بمثابة مصدر ثانوي احتياطي إلى جانب الوثائق الدستورية التي غذت المصدر الأول الأساسي لقواعد القانون الدستوري أو الأساسي، بل لقد ذهب جانب من الفقه إلى حد إنكار كل دور للعرف الدستوري بمعنى إنكار كل قيمة قانونية للعرف وعدم الإقرار له بأي دور كمصدر رسمي لقواعد القانون الدستوري، وهذا هو ما يمثل الاتجاه الشكلي أو الرسمي في القاعدة القانونية.

فقد ذهب الأستاذ والفقيه “كاريه دي ملبرج” (Carre’ de Malberg)، وهو من أنصار هذا الاتجاه، إلى أن: “العرف لا يمكن أن يكون مصدرًا للقاعدة الدستورية”… “لأنه يفتقر إلى ما تقتضيه تلك القاعدة من قوة إلزامية وسمو بالنسبة لسائر القواعد القانونية الأخرى”.

فالقاعدة العرفية في الواقع – كما يقول كاريه – يمكن استبعادها بصدور تشريع عادي. بينما لا يمكن استبعاد القاعدة الدستورية، أو حتى مجرد تعديلها، إلاّ بالطريقة التي ينص عليها الدستور ومن قبل الهيئة التي يحددها ذلك الدستور، ومن ثم فهو ينتهي إلى إنكار كل قيمة للعرف الدستوري من الناحية القانونية، وإن كان يعترف له فقط بأهمية أو قيمة سياسية، ولكن الغالبية من رجال الفقه وهم من أنصار الاتجاه الموضوعي أو الاجتماعي ترى على العكس من ذلك أن للعرف الدستوري قيمة قانونية، ومن ثم فهو يصلح لأن يكون مصدرًا رسميًا للقواعد القانونية الدستورية، بل ويقرون بأهمية وجود هذا العرف بجوار الوثائق الدستورية أو بجانب النصوص الدستورية المكتوبة، مستندين في ذلك إلى مجموعة من المبررات.

ومن هذه المبررات:

مبررات الاعتراف بالقيمة القانونية للعرف الدستوري

  1. أن الدساتير المدونة يقوم بوضعها فقهاء قانونيين يغلب عليهم الطابع النظري أكثر من الطابع العملي أو الواقعي. من هنا يلعب العرف دورًا هامًا في سد الثغرات التي تنكشف نتيجة عدم مراعاة الجوانب العملية والواقعية للمسائل التي تتضمنها النصوص الدستورية.
  2. يرى البعض أن القانون الدستوري يعالج العلاقة بين السلطات الحاكمة وفي هذا المجال نجد أن القانون أقل تطورًا ودقة. الأمر الذي يستلزم معالجة المشال الناتجة عن هذه العلاقة بالعرف الذي يتلاءم مع الظروف والواقع.
  3. لما كان النظام البرلماني قد نشأ في إنجلترا بناء على القواعد العرفية، فإنه يصبح من الضروري أن يكون لهذه القواعد دور أساسي في كافة الدول التي تأحذ بهذا النظام حتى وإن كان نظامها الدستوري مدونًا في وثيقة

العرف الدستوري في القانون المقارن

مما سبق يتضح مدى أهمية دور العرف الدستوري إلى جوار الوثيقة الدستورية المدونة. بل ومما يؤكد هذه الأهمية ما يُلاحظ في الواقع الدستوري لكثير من دول لعالم من اعتراف بهذا الدور. وإقرارً لما استقر عليه ذلك العرف.

العرف الدستوري في فرنسا

ففي فرنسا مثلا لعب العرف دورًا أساسيًا في تحديد معالم النظام الدستوري المقتضب الذي أتى به دستور عام 1875م. ومن ذلك:

  • تحديد لدور واختصاصات رئيس مجلس الوزراء والأخذ بنظام وزراء الدولة
  • تقرير حق الحكومة في إصدار لوائح البوليس
  • تقرير حق الحكومة في إصدار لوائح ترتيب المصالح العامة
  • وتقرير قاعدة سنوية الميزانية

العرف الدستوري في أمريكا

وفي الولايات المتحدة الأمريكية حيث الصياغة المجملة لنصوص دستور عام 1787م. فقد لعب العرف الدستوري دورًا هامًا في تحديد مضمون كثير من تلك النصوص. ومن ذلك:

  • إقراره لقاعدة عدم جواز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدة ثالثة. وذلك قبل أن يتضمنها التعديل الدستوري لعام 1951.

العرف الدستوري في مصر

وفي مصر نجد أن دستور عام 1923م اعترف بالعرف كمصدر رسمي إلى جوار الوثيقة الدستورية. وقد تضمنت إحدى مواده نصًا مفاده أن تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في الديار المصرية، على ألاّ يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب. وبذلك فإن العرف الدستوري يوجد – على عكس الدستور العرفي – في مختلف دول العالم.

والعرف الدستوري موجود سواء كان كمصدر اجتماعي أصلي أو رئيسي لقواعد القانون الدستوري أو كمصدر احتياطي أو ثانوي لتلك القواعد.

الدستور العرفي

حتى قيام الثورتين الأمريكية والفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر كانت القواعد الخاصة بنظام الحكم في مجموعها تقريبًا قواعد عرفية. والقواعد العرفية هي قواعد غير مدونة أو غير مكتوبة في وثيقة رسمية بواسطة جهة أو سلطة مختصة.

فقد كانت هذه القواعد تستمد من مجموعة العادات والتقاليد والسوابق التي كانت تتبعها السلطات المختصة في المجتمع بشكل متكرر حتى نشأ الاعتقاد بإلزاميتها كقواعد دستورية. وقد كان من الطبيعي أن تنشأ القواعد الدستورية في البلد عن طريق العرف حيث كان ذلك هو ما يتلاءم مع النمو التدريجي والبطيء لعناصر قيام الدولة في المجتمعات القديمة، وكذلك مع الانتقال التدريجي والبطيء أيضًا من فترة الحكم المطلق للحكام والملوك في تلك المجتمعات إلى فترة الحكم المقيد لهؤلاء الحكام والملوك، أي من الفترة التي كانت تختلط فيها سلطة الحكم بشخص الحاكم إلى فترة الفصل بين هذين الأمرين، وهو ما يقال له ظاهرة تأسيس الدولة (بالفرنسية: Institution de l’Etat) تلك الظاهرة التي لم تتحقق في واقع الأمر إلاّ تدريجيًا وعلى مراحل طويلة تختلف من دولة إلى أخرى حسب ظروفها وطبيعة شعبها والأحداث التاريخية التي مرت بها.

الدستور العرفي الإنجليزي نموذجًا

يُعد الدستور الإنجليزي النموذج المثالي بل وقد يكون النموذج الأوحد لهذا النوع من الدساتير في عالمنا المعاصر. وقد يرجع السبب في ذلك إلى طبيعة الشعب الإنجليزي ذاته وكونه شعبًا هادئ الطبع يحافظ على عاداته وتقاليده الموروثة ولا يلجأ إلى تعديل أو تطوير قواعده القانونية إلا بالتدريج وبعد تردد وتفكير، بل وقد يرجع السبب كذلك إلى أن النظام السياسي في إنجلترا نظام قديم وممتد في عمق التاريخ، فهو يرجع في الواقع إلى قرون طويلة في الماضي سبقت خلالها إنجلترا شعوب أوروبا قاطبة، مما جعله نظامًا يتم تدريجيًا وفي بطء وإناة.

وإذا كان العرف يمثل المصدر الأساسي أو الرئيسي للدستور الإنجليزي، إلاّ أنه ليس المصدر الوحيد لهذا الدستور، حيث توجد إلى جواره بعض الوثائق الدستورية المكتوبة، ومن أمثلتها العهد الأعظم Magna Catra (أو الوثيقة العظمى) الصادر عام 1215م، والذي تضمن بعض التنازلات من جانب الملك للشعب الإنجليزي، وقانون الحقوق The Bill of Rights الذي انتزعه الشعب الإنجليزي عام 1688م من “وليم أورانج“، وكذلك قانون Act d’Habeas Corpus عام 1689م لإقرار الضمانات اللازمة لحماية الحريات الفردية.

ورغم أهمية تلك الوثائق الدستورية المدونة إلاّ أنها لا تشكل في حقيقة الأمر سوى مصدرًا ثانويًا للدستور الإنجليزي الذي يعتمد بصفة أساسية على العرف الدستوري، وقواعد العرف الدستوري تلعب دورًا أساسيًا في بناء الدستور الإنجليزي حتى وإن كانت هناك وثائق مدونة أو مكتوبة إلى جوارها، إذ لا تشكل هذه الوثائق سوى استثناء يرد على تلك القواعد. الأمر الذي يبرر إطلاق الفقه في غالبيته وصف الدستور العرفي على النظام الدستوري الإنجليزي.

المصدر

  • كتاب: النظرية العامة للقانون الدستوري، دكتور: رمضان محمد بطيخ.
    • أستاذ ورئيس قسم القانون العام، كلية الحقوق، جامعة عين شمس.
    • المحامي بمحكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا والمحكمة الدستورية العليا.
العرف الدستوري - أركان العرف الدستوري وأنواعه، العرف المفسر، والمنشئ أو المكمل والمعدل، القيمة القانونية له، الدستور العرفي
العرف الدستوري – أركان العرف الدستوري وأنواعه، العرف المفسر، والمنشئ أو المكمل والمعدل، القيمة القانونية له، الدستور العرفي
error:
Scroll to Top